على عكس ما يروج في العالم العربي بأن التشدد في مواجهة إسرائيل يعزز المتطرفين داخلها، فإن مراحل الصراع معها، تؤكد حقيقة أن تقديم المزيد من التنازلات العربية، شكّل على الدوام في تل أبيب دافعاً لإظهار المزيد من «التشدد» في المواقف والخطوات العملانية من دون أي مراعاة لحلفائها وأصدقائها العرب.لم تقتصر الصفعة التي وجهها رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، عبر ضمّ زعيم "إسرائيل بيتنا"، أفيغدور ليبرمان، إلى الحكومة وتسليمه حقيبة الأمن، على رئيس المعسكر الصهيوني إسحاق هرتسوغ، بل طاولت أنظمة «الاعتدال» العربي، التي قابلت سياسة التوسع الاستيطاني والاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة، والتسويف على مسار التسوية، بمزيد من مبادرات حسن النية، والانتقال إلى المرحلة العلنية في الاتصالات والترويج لتطوير العلاقات إلى مرحلة التحالف.
وحملت "صفعة بيبي" رسائل داخلية وأخرى خارجية. فعلى المستوى الداخلي، تندرج خطوة ضم ليبرمان بدلاً من هرتسوغ (يسعى نتنياهو إلى ضمه أيضاً) ضمن إطار اللعبة السياسية الداخلية التي سجل من خلالها نتنياهو إنجازاً يهدف إلى لمّ شمل معسكر اليمين، وتعزيز الحكومة بما يؤدي إلى إطالة عمرها. كذلك، وجَّه نتنياهو صفعة سياسية أربكت خصمه السياسي هرتسوغ، داخل حزبه.
مع ذلك، انطوى هذا المستجد الداخلي على رسائل تتصل بالنظرة الإسرائيلية إلى سياسة «التنازلات»، المغلفة بالاعتدال العربي، وما توفره من فرص لإسرائيل، مع تأكيد أنها ليست المرة الأولى التي ينطوي فيها موقف أو حدث داخلي إسرائيلي على هذه الدلالات.
وتستند سياسة التشدد، التي تعتمدها إسرائيل في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، إلى قراءة مفادها أن التجربة التاريخية تقول: كلما تشددت إسرائيل في مواقفها، ردت الأنظمة العربية بمزيد من «الاعتدال» عبر تقديم المزيد من التنازلات، وهذا ما حدث في أكثر من محطة. فتشدد إسرائيل في كل ما يتعلق بالأراضي المحتلة عام 1948 (عودة اللاجئين من فلسطينيي 48) دفع العرب إلى التكيف مع هذا الواقع، حتى باتت هذه المناطق خارج إطار أي مطالب أو طموحات أو حتى أحلام أنظمة الاعتدال. وبات أي موقف جذري في هذا الاتجاه خرقاً لما يسمى زوراً «الإجماع العربي» القائم على أساس شرعنة الاحتلال الإسرائيلي، عبر الاعتراف بحق إسرائيل بالوجود.
بات شرط التقدم في المسار الفلسطيني لتحقيق التطبيع مقلوباً

على هذه الخلفية، حصر السقف السياسي الفلسطيني الرسمي، والاعتدال العربي، ضمن إطار الأراضي المحتلة عام 1967. وهكذا وجدت إسرائيل في هذا «السقف»، فرصة لفرض المزيد من الوقائع، فرسمت خطوطاً حمراً تتصل بالقدس، وأخرى تتصل بالمستوطنات، وثالثة بالترتيبات الأمنية، ورابعة بغور الأردن. بل كلما امتد الزمن، حققت المزيد من التوسع الاستيطاني، تحت سقف تسوية أوسلو.
في المقابل، كان الرد العربي (الخليجي) الرسمي، المزيد من مبادرات السلام، المزيد من الاتصالات، أو التخوين والاتهام لكل من يحاول دعم المقاومة الفلسطينية. وباتت بقية المقاومة في العالم العربي على المهداف، إما عبر وسمها في لبنان بالإرهاب، وإما تطويقها في فلسطين تمهيداً لإسقاطها أو دفعها إلى الخضوع والاستسلام.
هكذا وجدت إسرائيل مرة أخرى في الرد الرسمي العربي، جائزة سياسية من دون أي مقابل منها، على سياسة التسويف في عملية التسوية، وكذلك على سياسة فرض المزيد من الوقائع الاستيطانية على المستوى الميداني. فباتت اتفاقات التسوية، والاندفاع العربي إلى المزيد من العلاقات، وصولاً إلى التنظير لإمكانية نسج تحالفات إقليمية على قاعدة المصالح المشتركة، تشكل مظلة سياسية نحو مزيد من الخطوات في الطريق إلى تحقيق ما لم يتحقق مع "إعلان الدولة" عام 48، ولم تسمح به الظروف السياسية حتى الآن.
على هذه الخلفية، لم يجد المجتمع الإسرائيلي، ومعه المنظومة الحزبية والسياسية، ما يمنعه من إبداء المزيد من التشدد إزاء فلسطينيي الـ 48، والـ 67، وفلسطينيي الشتات على المستويين السياسي والأمني، خصوصاً أنه يدرك أنه لن يدفع أي ثمن سياسي أو أمني نتيجة هذه السياسات. وهكذا تلمست إسرائيل بالتجربة، أنه كلما وسعت خطوطها الحمر، وفرضت المزيد من الوقائع، تراجع سقف الاعتدال العربي.
لذلك، كان لا بد من تثمير هذا الواقع بصيغة سياسية جديدة، فأنتج نتنياهو معادلة مفادها أن الطريق إلى حل القضايا العالقة مع السلطة الفلسطينية يمر عبر نسج علاقات عربية (خليجية) - إسرائيلية أولاً؛ على أمل أن يؤدي ذلك إلى نتائج إيجابية على المسار الفلسطيني. ويهدف من ذلك إلى الالتفاف على مطلب «الاعتدال» بضرورة تحقيق تقدم على المسار الفلسطيني كمدخل لهذه العلاقات.
لكن من الواضح أن نتنياهو يرى أنه عبر المزيد من سياسة التشدد في فرض الوقائع، المغلف بشعارات الاستعداد لمزيد من جولات المفاوضات المباشرة... سيؤدي ذلك إلى تراجع عربي إضافي يقفز فوق شروطه المعلنة، نحو نسج علاقات مباشرة، وصولاً إلى نسج تحالفات إقليمية، من دون أن يضطر إلى دفع أي أثمان جوهرية في الضفة المحتلة. وتأتي اللقاءات التي بدأت تتوالى بين المسؤولين السعوديين لتثبت للقادة الإسرائيليين صحة رؤيتهم بأن إظهار المزيد من الحزم والثبات على مواقفهم سينتج مزيداً من التنازل العربي.
ضمن هذا الإطار، يمكن فهم عدم اكتراث نتنياهو لتداعيات ضم ليبرمان التي تنطوي على رسالة صريحة ومباشرة، بأن على العرب أن يتكيفوا مع السقف السياسي لحكومته اليمينية، إزاء الساحة الفلسطينية، بل أي مبادرة لعقد أي مؤتمر ينبغي أن تنطلق من هذا التسليم، أو عليهم أن يسلموا بتكريس الواقع القائم.