هبط ضوء مصباح الغرفة على الوشم المغروس في أعلى ظهري. تذكرت أنه حبلي السري إلى دخيلتي. وربما هو ممتد -كما آمنت- إلى أعماق المدينة التي ُسميت باسمها. أخبرتك في ذلك النهار أنني سأشم اسمكَ على صدري، لكنك رفضت وقلت إن وشم «بيروت هي الروح»، سيبدو جميلاً حين يلتصق بظهري وأحمله أينما حللت. أما حنظلة الموشوم على ظهرك فقد كان بالنسبة لكَ- كما هو بالنسبة لي- أكبر من قطعة حبرية، آمنت بذلك عندما مررت بيدي فوقه لألمسه، فيما يدي الأخرى تحيط برأسك، حين حضنتك لأول مرّة في بحر نابل في تونس الخضرا! رائحة الكلور تجتاح الغرفة. فالغرفة التي أتحدث عنها عبارة عن مرحاض، وفيها شباك صغير جداً يعجز عن تهوئة المكان. انتظرت طويلاً بجانب المرحاض، كان الباب مفتوحاً يظهر منه رجل يهودي من أصول روسية، يبدو كتاجر مخدرات أو قاتل. تقابلت عيني بعينيه، ومن مسافة قريبة أدركت أنه مجرم، وسيدخل إلى السجن إذ كُبلت يداه وأرجله بالسلاسل، منتظراً مثلي ساعة التفتيش. لا أعرف ما الذي دفع به إلى الكلام، فبدأ يشرح أن كاميرا للمراقبة مزروعة مقابل وجهي- لم أكن قد تنبهت لها لولا حديثه- ونظرت إلى المكان الذي أشار بيده إليه ووجدتها معلقة هناك كرأس مقطوع! ولذلك، ابتعدت قليلاً إلى الخلف، مواريةً وجهي خلف الباب.
بعد وقت أقبلت مجندة إسرائيلية من غرفة مجاورة مليئة بخوذات وسترات واقية وهراوات، كانت قد استغرقت في حديث طويل مع مجندة أخرى تقف في غرفة «الاستقبال»، أي المكان الذي يُطلب منكَ فيه تسيلم بطاقة هويتك وهاتفك. سمعتها تتحدث عن «سهرة الليلة» وأن «السوتيان» الذي اشترته من محل «أفروديتا» لم يكن مناسباً ليغطي على حجم صدرها الصغير ويظهره كبيراً أمام عشيقها. لم تكن هذه مشكلة لدي، بل على العكس كنت دائماً فخورة بأنني نضجت باكراً وظهر لدي ثديان كبيران!
دفعت الباب بيدها وهي تأمرني بخلع ملابسي كلها كي تفتشني، اختبأت مجدداً خلف الباب، وهي بدورها أغلقته. قلت إنني لا أريد فعل ذلك وأن بإمكانها تمرير جهاز الكشف الإلكتروني لتتأكد أنني لا أخفي شيئاً، لكنها أصرت «هذه قوانين السجن، أنت في الجلمه!».
مرغمةً بدأت بخلع ثيابي قطعة تلو الأخرى، فيما كان جسدي الممتلئ يغور في قلبي متقلصاً، هارباً من نظراتها، التي بدت حاسدةً أكثر مما هي استكشافية «نيالك لكِ صدر كبير!». أمرتني بأن أستدير لتتأكد من أنني لا أعلق شيئاً على ظهري. وحين استدرت استقر ضوء «اللمبة» فوق الوشم، فبدا بالنسبة إليها نافراً فوق الجلد إذ سألتني أين قمت بوشمه؟ يبدو لي كأن جسدك لفظه كما يفعل بحر مع جثة غريق! بقيت صامتةً فيما هي تحاول قراءة الجملة العربية «النافرة»، ولمّا يئست عادت للسؤال عن معناها، فأجبت بالصمت.
لم يكن أحدٌ غيرك، سوى الخطاط الذي وشمه لي، قد رآه. وحين كشفته، حزِنت كأنما أفشيت سراً تحت التعذيب!
وحين خلعت بنطالي كما أمرتني، طلبت إليّ أن أجلس كالقرفصاء، ففعلت مستغربةً، قبل أن تبدد جملتها الحاسمة شكوكي «المجرمون دائماً يخفون أشياء تحت!»! ولكن من هم المجرمون؟ ولماذا أنا منهم؟ وما الذي سأخفيه «تحت»؟ تذكرت فجأة قصة بنت في الإصلاحية التي اشتغلت فيها لمدة سنةَ، عندما أخبرتني ذات يوم أنها أخفت هاتف «نوكيا» صغير عن المربيات داخل... «التحت»!
لكنني لست مجرمةً وليس هناك ما أخفيه، «جرمي» أنني أحببتك ولهذا أنا هُنا في السجن! لست معتقلةً ولا أسيرةً لكن التحقيق الطويل الذي يستمر لأكثر من 12 ساعة يومياً كان أقسى بكثير من الجلوس لوحدك في زنزانة إفرادية، فالأصدقاء الذين حشروا فيها أخبروني أن التحقيق والتعذيب النفسي أبشع بكثير من الوحدة والانقطاع عن العالم الخارجي. بعض هؤلاء صادق نملةً! وآخرون وجدوا مسماراً أو قطعة حديد خطوا فيها رزنامتهم اليومية على الباب الحديدي، محصين عدد الأيام التي انقضت.
لكن مهلاً لا أريد أن أحشر هناك مثلهم! لا يمكنني تخيل الوحدة! ليس بمقدوري الجلوس في مكان لا يدخل إليه سوى طبق طعامٍ مقزز من نافذة صغيرة مطبقة طوال الوقت، ومن ثم إعادتها – كما هي بطبيعة الحال- إلى السجان! لا... لا! لا يمكنني الجلوس في ذلك المكان القذر أحصي عدد الساعات الثقيلة التي لا تمضي. كما لا أحتمل البقاء بعيدة عنكَ بلا أخبار، أو رسائل، أو محادثات «سكايب»، أو لقاءات في دولة ثالثة غير لبنان وفلسطين! لا أحتمل فكرة الغياب.
ولذلك ببساطة اقتنعت أن أبشع شيء يمكن أن يحصل لي في حياتي هو قطعي عنها! ما جعلني أستخف بفكرة رفاقي حول قساوة التعذيب النفسي، وخصوصاً حين يكون المرء بريئاً تماماً من كل التهم أو الشكوك الموجهة إليه، وكل ما في الأمر أنه يحب شخصاً حمّلته جنسيته ما لا طاقة له به!
فكرت في ذلك كله، فيما كان السجّان يعبر بي من ممر إلى آخر، داخلاً من خلال البوابات الزرقاء الحديدية الكبيرة، ليبلغ أخيراً رواقاً طويلاً توزعت على جانبيه غرف كثيرة للتحقيق- التعذيب.
فبعدما فرغت المجندة من تفتيشي- تعريتي، حضر أحد السجانين ليجرني إلى هناك.
على جدران الرواق توزعت صور غريبة لفنانين ورسامين لا يمكنك أن تتخيل مطلقاً أن أعمالهم قد تصادفك هنا! والأغرب أن تصادفك خارطة فلسطين حاملة أسماء القرى والمدن المهجرة وباللغة العربية، معلقة هناك على جدار مركز تحقيق... إسرائيلي!
منذ اليوم الذي قررت فيه الاستقرار في لبنان وجدت نفسي أتصرف مع كل ما مضى كأنما هو غبار لن أزيله نهائياً مهما حاولت إخفاءه تحت سجادة. قلبي الذي يريد أن ينفض عنه ما علق، يجد عقلي يقاومه دائماً، فالمنطق لا يجيز لي التجرد مما حصل.
وبرغم أنني صرت معك وبجانبك، وبإمكاني ضمك في أي وقت شئت من دون أن يمنعني أي مخلوق في هذا العالم، فقد أعاد حديث صديقة لي اعتقل حبيبها من غرفة نومهما فجراً وجُرّ أمام ناظريها إلى جهة مجهولة للتحقيق، الشريط الطويل لتسعة أشهر قضيتها بعيدة عنك، وأنت منقطع عن العالم كله لا تخرج للسهر مع أصدقائك ولا تحادث الناس. تفكر فيّ فقط... حين كنت أستجوب عنكَ في فلسطين المحتلة، بينما تحمل أنت وزر ذلك في لبنان!
كم هو قاسٍ ذلك الأثر المحفور في قلبي كوشم لا يمحى!