التدقيق في مضمون مواقف رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، يوم أمس، يؤكد أن نتنياهو لم يتزحزح عن «ثوابته السياسية» في ما يتعلق بالتسوية على المسار الفلسطيني. لأنه رأى أن «المبادرة العربية تشمل مركبات إيجابية يمكنها المساعدة على ترميم المفاوضات مع الفلسطينيين»، في حين أنه لجأ إلى أسلوب تحويل المبادرة نفسها إلى موضوع للمفاوضات بهدف إحداث تعديلات عليها «تعكس التغييرات منذ عام ٢٠٠٢، موعد طرح المبادرة، والحفاظ على الهدف المتفق عليه، إقامة دولتين للشعبين».على هذه الخلفية، أكد نتنياهو مرة أخرى تمسكه بثوابته حتى لو اقترن ذلك بتعديل ما في الشكل، وكشف أيضاً عن رهاناته بأن «عرب الاعتدال» لا بد أنهم سيقدمون تنازلات إضافية، في مقابل التشدد الإسرائيلي، عن سقف المبادرة التي شكلت بدورها تنازلاً عن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
من هنا، رأى رئيس حكومة العدو أن هذه المبادرة «ترمز إلى تغيير مهم من روح مختلفة، روح الخرطوم قبل أربعة عقود»، ثم طرح «صيغته السحرية»، بالقول: «إذا كانت هذه الاقتراحات ليست نهائية، أؤمن بأن هذه الروح يمكن أن تساعد على إنتاج جو يصبح فيه السلام الشامل ممكناً»، في إشارة إلى طرحه المقابل بنسج علاقات وتحالفات مع الأنظمة الخليجية، ثم الرهان على أن يكون ذلك، مدخلاً لإحداث تغييراً على المسار الفلسطيني.
وعكست مواقف نتنياهو المدرسة الإسرائيلية في التفاوض مع الأطراف العربية والفلسطينية، باعتبار كل سقف سياسي يتراجع إليه العرب والفلسطينيين، منطلقاً جديداً للتفاوض على سقف أدنى. وهكذا حتى بات يلامس السقف العربي التراب الفلسطيني، الذي لم يعد يتسع لكيان سياسي فلسطيني يسمى زوراً «دولة».
كل ما تفعله تل أبيب تقديم ضريبة لفظية في المواقف الثابتة نفسها

وتطبيقاً لمبدأ استغلال المتغيرات السياسية الإقليمية والدولية، لمصلحة الثوابت الإسرائيلية، برر نتنياهو مطالبته بإحداث تغييرات على المبادرة العربية بالمتغيرات التي شهدتها المنطقة منذ ٢٠٠٢، وهو بذلك يفتح الباب واسعاً للتذرع بمروحة واسعة من المتغيرات التي شهدتها المنطقة منذ تلك المدة، من الاتفاق النووي الإيراني وما عكسه من تغيير جذري في المعادلات الإقليمية والدولية في المنطقة، وتمدد الإرهاب، وتفكك دول، وتبلور أرضية مشتركة لتحالف عربي ــ خليجي ــ إسرائيلي على قاعدة المصالح المشتركة، ومن ضمنها حالياً مواجهة محور المقاومة.
الضريبة الكلامية، التي قدمها نتنياهو أمس، إزاء المبادرة العربية، أتت امتداداً لضريبة مماثلة أطلقها عام ٢٠٠٩، عندما أعلن قبوله مبدأ دولتين لشعبين، مع الإشارة إلى أن حزب «الليكود» لا يزال لا يتبنى مبدأ الدولتين، بل يرفض إقامة دولة فلسطينية على أرض فلسطين؛ بالعودة إلى ظروف تلك المرحلة، وجد نتنياهو نفسه آنذاك مضطراً إلى تقديم هذه الضريبة اللفظية، من أجل احتواء الضغط الأميركي الذي نتج من سعي وطموح الرئيس باراك أوباما، الذي وصل في السنة نفسها إلى البيت الإبيض، من أجل إحداث تحول سياسي على المسار الفلسطيني.
مع ذلك، لم يقصّر نتنياهو منذ ذلك الإعلان في جامعة بار ايلان، بالمبادرة إلى أي خطوة استيطانية أو سياسية، تجعل إقامة الدولة الفلسطينية أبعد من أي وقت مضى، حتى وفق الصيغة الإسرائيلية لمفهوم هذه الدولة. وواكب هذا الأداء، طوال السنوات السبع الماضية، بمزيد من الثبات على خياراته الفلسطينية، حتى إنه لم يُحدث أي تغيير جوهري، أو ما يقارب ذلك، بل كان وفق صحيفة «هآرتس»، «يبدل كلمة مكان كلمة». وهذا ما فعله الآن بالقياس إلى مواقفه السابقة من المبادرة العربية التي ذكّرت بها الصحيفة.
يشار إلى أنه في حزيران 2013، رأى نتنياهو خلال كلمة في الكنيست، تطرق فيها إلى «المبادرة العربية»، أننا «نصغي إلى كل مبادرة، ونحن مستعدون لمناقشة المبادرات التي هي اقتراحات، وليست إملاءات»، في إشارة إلى اعتبارها غير ملزمة، من ثم انتقاء بنود منها، ورفض أخرى.
وفي أيار ٢٠١٥، رأى نتنياهو أن المبادرة «تتضمن أموراً إيجابية، وفيها أمور سلبية عفا عليها الزمن، مثل مطالبة إسرائيل بإعادة الجولان، أو مشكلة اللاجئين». كذلك أكد أن «المبادرة طرحت قبل ١٣ سنة، ومنذ ذلك الحين تغيرت الكثير من الأمور في الشرق الاوسط، ولكن فكرة محاولة تحقيق تفاهم مع دول رائدة في العالم العربي، هي فكرة جيدة».
أما عن الأسباب الظرفية التي دفعت نتنياهو إلى هذا التكتيك الجديد ــ القديم، فأرجعتها «هآرتس» إلى الأسباب نفسها التي دفعته إلى مواقف مشابهة في الماضي، وبعبارة أخرى إلى خشيته من الضغط الدولي على إسرائيل في الموضوع الفلسطيني، خصوصاً في ضوء عقد وزراء خارجية ٢٩ دولة، بينهم الولايات المتحدة وروسيا، اجتماعاً في باريس يوم الجمعة المقبل، من أجل مناقشة الجمود السياسي بين إسرائيل والفلسطينيين ولدفع المبادرة الفرنسية.
بعد ذلك بأيام، ينشر تقرير الرباعية الذي ستقود إملاءه الولايات المتحدة، وينطوي على انتقاد لإسرائيل ويحدد أن سياستها في الضفة المحتلة، خاصة توسيع المستوطنات، يهدد بتصفية حل الدولتين. وتضيف «هآرتس» أنه ينبغي أن نضيف «السيناريو الكابوس» الذي يخشاه نتنياهو، وهو أن يحاول أوباما، بعد الانتخابات الرئاسية، لأنه سيكون محرراً من الضرورات السياسية، الدفع باتجاه اتخاذ قرار في مجلس الأمن يتعلق بالمسار الإسرائيلي ــ الفلسطيني، أو الامتناع عن استخدام الفيتو إزاء قرارات مشابهة ستطرح للتصويت من دولة أخرى. ويهدف نتنياهو من ذلك إلى إحباط كل هذه المسارات، عبر التلويح بمسار بديل إزاء دول عربية، في مقدمتها مصر.