المسافةُ بين اللاذقيّة وجبلة ليست طويلة. 25 كيلومتراً نقطعها في أقلّ من نصف ساعة تخلّله توقّف لم يستغرق سوى دقائق معدودات عندَ حاجز واحد في منتصف المسافة تقريباً. قبل الانطلاق إلى المدينة، التي لم تجفّ دماء شهداء تفجيراتها الأخيرة بعد، كان لا بدّ من الحرص على اصطحاب الوثائق والثبوتيّات اللازمة: البطاقة الشخصيّة، البطاقة الصحفيّة، أوراق الاعتماد الرسميّة من قِبل المجلس الوطني للإعلام... إلخ. فالتشديدات الأمنيّة المتوقّعة تجعل كل ما سبق ضروريّاً. الازدحام عند مدخل المدينة يبدو كافياً لاتّخاذ قرار بمغادرة الحافلة ودخول المدينة سيراً على الأقدام. المفاجأة الأولى أنّ المشاة قادرون على المرور بالحاجز مرور الكرام. سيّارة أجرة ستتكفّل بالوصول إلى المشفى الوطني في أقلّ من خمس دقائق، فالمدينة صغيرة وشوارعها لا تشهد أي ازدحام. المفاجأة الثانية كنّا على موعد معها عند مدخل المشفى، حيث تكرّر المشهد السابق: نتلفّت بحثاً عن أحد يسأل عن هويتنا، أو سبب وجودنا هنا فلا نعثر! خطوات قليلة نقطعها، لنجد أنفسنا أمام الباب الداخلي للمشفى. لوهلة ستظنّ أنّك قصدت المكان الخطأ، فليس من المعقول أن تغيب أي إجراءات أمنية عن موقع جريمة إرهابيّة حدثت قبل فترة وجيزة.
مشفى «المفاجآت»

داخل المشفى تتوالى المفاجآت، وتتنوّع بين سلبيّة وإيجابيّة، بدءاً بالحالة الفنيّة البائسة للمبنى الذي لا يتجاوز حجمه حجم جناح في أحد المشافي، وليس انتهاءً بآليّة عمل أقسامه، ولا سيّما «مكتب الجودة» الذي يعمل بطريقة أقل ما يُقال عنها أنّها فائقة الاحترافيّة. طلاء الجدران المتآكل والإنارة الباهتة لم يُفلحا في إخفاء مظاهر لافتة: كل شيء يبدو مُنظّماً: النظافة المحيطة بك يندُر أن تلاحظ مثيلاً لها في مشافٍ عامّة كثيرة، والهدوء رغم كثرة الداخلين والخارجين، والمشفى يستقبل المراجعين والمرضى كأنّه لم يتوقّف عن العمل لحظة واحدة. مدير المشفى الدكتور قصي خليل، يبدو فخوراً بعودة المشفى السريعة إلى العمل، وحريصاً على الإشارة إلى «تكاتف الكوادر وإصرار الجميع على تجاوز المحنة». يُجري خليل مقارنةً سريعةً بين حال المشفى الوطني قبل عام 2011 وحاله عشيّة حدوث الاعتداء الإرهابي «قبل الأزمة كان لدينا مشفى من ثلاث كتل يضم 220 سريراً ويخدم قرابة 300 ألف نسمة، أمّا بعدها فتقلّصت المساحة إلى كتلة واحدة تحوي 55 سريراً وتخدم نحو مليون نسمة».


«الاثنين الأسود»

لا حاجة لتحريض ذاكرة أحد من كوادر المشفى لرواية ما حصل صبيحة التفجير. مع دويّ التفجير الأوّل الذي استهدف كاراج جبلة استنفر الجميع، وبدأت سيارات الاسعاف بنقل المصابين إلى قسم الإسعاف. وفي ظل الازدحام الذي عمّ القسم، وقع الاعتداء الإرهابي عبر انتحاري بحزامٍ ناسف فجّر نفسه وسط المُسعفين والجرحى. بلغ عدد شهداء المشفى ثلاثة عشر شهيداً، إضافةً إلى 54 جريحاً أربعة منهم في حالة حرجة، فضلاً عن مفقودة واحدة لم يتضح مصيرها بعد، هي الممرضة كليمة عزيز. اللافت أنّ عدداً من المصابين لم تظهر عليهم آثار الإصابات فوراً، بعضهم عاد إلى منزله قبل أن تتكشّف إصابتُه بـ«حروق كيميائيّة»، وهو أمرٌ ناجم عن طبيعة المواد التي استُخدمت في التفجير. وهي وفقاً لخليل «مواد حارقة مشوّهة، سبّبت تغيير معالم بعض الجثامين». لا مزيد من الإيضاحات حول تلك المواد لدى خليل، فالأمر «من اختصاص الأمن الجنائي، وفي عُهدته».

«قيامة» اليوم الثالث

فور وقوع الاعتداء قامت إدارة المشفى، بإشراف مديريّة الصحّة، بإخلاء المصابين الأحياء وتوزيعهم على مشافي جبلة واللاذقية، وسُلِّمَت جثامين الشهداء (35 شهيداً، هم شهداء المشفى، إضافة إلى المصابين في التفجير الأوّل الذين أسعفوا إلى المشفى واستشهدوا في التفجير الثاني) والأشلاء للهلال الأحمر، حيث نُقلوا إلى المشفى الوطني، والمشفى العسكري في اللاذقيّة. أعلن المشفى «خارج الخدمة» بعد نحو ثلاث ساعات، ووُضع في عهدة الأمن الجنائي لمدّة 24 ساعة بغية إنجاز الإجراءات اللازمة. في اليوم التالي وصلت وُرش مديرية الصحة وباشرت عمليّات تعقيم المشفى، وورش الدفاع المدني التي باشرت عمليّات ترحيل الأنقاض. «بعد ثلاثة أيّام من التفجير عاد المشفى إلى العمل»، يقول خليل، ويضيف: «يوم الجمعة أجرينا أول عمليّة تصوير طبقي محوري». بعد عودته إلى العمل حرص عددٌ من مصابي الكادر التمريضي على الانتقال لاستكمال علاجهم فيه. كانت عُلا «أوّل مريضة تدخل المشفى بعد التفجير، وأصرّت ألّا تُعالج إلا فيه». الممرضةُ المُصابة بحروق وشظايا تصرّ على الابتسام وتقول ضاحكة: «بدهم يخلولي شظيّة بجسمي للذكرى». أعمال إعادة التأهيل في قسم الإسعاف المُتضرّر بشدّة لا تتوقّف، أعيد بناء الجدران التي هُدمت، ويُستكمَل إكساء القسم. يؤكّد مدير المشفى بحماسة أنّ تغييراً كبيراً سيطرأ في خلال وقت قصير «إضافة إلى إعادة التأهيل، طلبنا إنشاء سور للمشفى، وتخصيصنا بمفرزة أمنية، ووُعدنا بإنجاز ذلك سريعاً. كذلك ننتظر وصول أربع غُرف مسبقة الصنع لتنضم إلى ثلاث موجودة حاليّاً وتُشكّل عيادات خارجيّة». قرب مدخل قسم الإسعاف يستوقفُنا خليل ويشير إلى مساحة ترابيّة قائلاً: «هنا سنزرع وروداً، ونُشيد نصباً لتخليد ذكرى شهداء المشفى».




قرار التوسيع... على الورق


لتقلّص مساحة المشفى حكايةٌ طويلة، ملخّصها أنّ قراراً كان قد اتّخذ بهدم المشفى وإعادة بنائه بموجب اتفاقيّة موقّعة مع «جمعيّة البستان الخيريّة» في عام 2010. وتقرّر الإبقاء على «مبنى الجراحات» لتقديم الخدمات الإسعافية والعاجلة. في شهر تموز من عام 2011 أكّد وزير الصحّة حينها (ورئيس الوزراء حاليّاً) وائل الحلقي أنّ «إنجاز أعمال الهدم وإعادة البناء في المشفى ستنتهي في غضون 18 شهراً»، لكنّ شيئاً لم يحصل منذ ذلك الحين وحتّى عشيّة التفجيرات الإرهابيّة.