كان للنشأة في مدرسة الأونروا في مجتمعٍ فلسطيني مغلق حسناتٌ كثيرة، لكنه أيضاً وكعادة المجتمعات الضيقة المغلقة ذاتها، لها سيئات مماثلة. واحدة من أكثر السيئات التي كنا نعاني منها كشبانٍ صغار هي عدم وجود الفتيات. طبعاً ذلك لا يعني البتة أن المدرسة غير مختلطة، فالمدرسة التي كنتُ فيها كانت مختلطة، لا بل إن عدد الفتيات أكثر بكثيرٍ من عدد الفتية، لكن المشكلة كانت بالنسبة لنا أعقد بكثير من تصنيفٍ جندري بائس. بمجرد أن تسمع كلمة "شو مالك" أو "شو بتخرّف" (بمعنى شو عم تقول؟) مع اللهجة الفلسطينية الثقيلة لفلاحي فلسطين أو الداخل الفلسطيني الأكثر بداوة، حتى تعرف بأن الفتاة التي تتحدث معها هي فلسطينية جداً وكثيراً! ويتبعها في عقلك فكرة "جزيلاً"، أي بمعنى لن أتحدّث معها في حياتي كلّها. طبعاً كل هذا كان يقودنا لأن تصبح هذه الفتيات مجرد صديقات، رفيقات، زميلات، لكن أبداً أبداً لسن حبيبات. هذا قاد معظمهن إلى حب فتيانٍ من المدارس التي حولنا، المدارس "اللبنانية" حولنا، ولكن تلك قصةٌ أخرى.
ذات يومٍ شتائيٍ مكفهر، أتت منى إلى الصف، كانت منى أول فتاةٍ حقيقيةٍ تأتي إلى الصف. شعرٌ أشقر قصير، ثيابٌ مهندمة، بلا مريول المدرسة. طبعاً كنا نرتدي كلنا مريول مدرسة أزرق باهتاً يختفي لونه شيئاً فشيئاً مع غسله بشكلٍ يوميٍ تقريباً، إذ كنا "قروداً" وكانت المدرسة موحلةً بشكل دائم.
كانت منى قادمةً من "بيروت" (مدرستنا كانت في البقاع آنذاك). كانت حرب المخيمات تعصف ببيروت آنذاك، لذلك اختار أهل منى أن يسكنوا البقاع فترةً من الزمن لأنه أكثر أماناً، عرفنا ذلك فيما بعد عبر سامر الذي يعمل والده في إدارة المدرسة. ظلت منى تأتي إلى المدرسة بثيابها الملوّنة –وأحياناً القصيرة- إلى المدرسة كون المدرسة –بقضها وقضيضها- لم تجد مريولاً مناسباً لها.
كانت الفتاة ذات الشعر الأشقر القصير قليلة الكلام، وكانت تبدو غريبةً في وسطٍ ينظر إليها بريبة. الفتيات لم يقتربن منها كثيراً لأنهن شعرن بأنها تشكل "خطراً" وجودياً، أما نحن –كشباب المدرسة- حاولنا بكل الوسائل جذبها ناحية أحدنا للحصول منها على "ريق حلو". لكن الفتاة لم تعطِ أحدنا ومن أي نوع كلمة حتى. كانت صامتةً معظم الوقت، بدأ ظهور الفتاة وبريقها يخفت شيئاً فشيئاً مع تقادم الزمن، وهي على حالها، لا تتكلم ولا تفعل أي شيء، حتى عيد المعلّم، يومها أتت منى بصندلٍ مفتوحٍ إلى المدرسة، وقد وضعت "مناكير" (طلاء أظافر) فوق أظافرها. كانت تلك أكبر صدمة للمدرسة بأكملها. ليس لأننا لا نعرف "الماناكير"، ولكن لأن معظم فتياتنا وفتياننا يعرفون بأن المناكير لا يستعمل في هذا "العمر". أتذكر أن ربيعة إحدى الفتيات في مدرستنا نظرت إليها بشكلٍ متفاجئ، ثم أشاحت بوجهها قائلةً بأن منى "مرا كبيرة بس عاملة بنت صغيرة"! طبعاً أضحكني كثيراً التعليق، لكن لم أفهمه كثيراً. شكلت منى بشكل أو بآخر الأنثى الوحيدة الحقيقية في مدرستنا.
بعد أشهر من عيد المعلّم، والفتاة الصامتة الجميلة لا تحدّث أحداً، وكعادة المدارس الفقيرة، يغدو العنف جزءاً من الألعاب اليومية للطلبة، كنا نلعب لعبة "العرجاء" وهي لعبة تقضي بوجود فريقين يدافعان عن أماكن وجودهما، وعلى أحد المشاركين الدخول لمنطقة الخصم بهدف لمس الآخرين، فيما على الآخرين منعه وضربه حتى يستغيث.
طبعاً منى لم تكن تشارك، لكنها وقعت في لحظةٍ ما بين الفريقين المتوحشين. وللصدفة كنت آتياً من دكانة المدرسة، في المرات القليلة التي كان الوضع المادي يسمح لي بزيارتها، فشاهدت منى تقبع تحت المتصارعين، ولأن اللعبة بالنسبة لكثيرين أهم من حياة أحد، كانت المعركة تستعر. أعطيت "البونجيسة" وقطعة "الكيك" ذات الطعم الغريب إلى أحد الأصدقاء، ثم هرعت صوبها، طبعاً هذا الموقف كان حلم نصف الفتيان في مدرستنا: أن تنقذ الأميرة من براثن التنين. طبعاً أخرجت منى الباكية من تحت الأنقاض، هي طبعاً لم تلتفت إلي إذ كانت تبكي وسرعان ما جاء أحد الأساتذة لمعرفة ما بها، واعتقدت أن بطولتي ستنتهي ولن يرى أحدٌ البطل الشهم الذي أنقذ الأميرة. باختصار: جاء أهلها وانتهى الأمر، فعدت كي أحصّل الغنيمة، لأجد أن صديقي قد التهم الكيك وشرب البونجيسة، فخسرت يومها مرتين.
لم تأتِ منى ليومين، في اليوم الثالث كنتُ أجلس عند زاوية المدخنين، ليس لأنني أدخّن بل لأن الزاوية تعطيك إيحاء بأنك "كبير" و"معلم"، طبعاً هذا كان باعتقادنا، أما باعتقاد جميع الكوكب فهي زاوية مهدمةٌ لمنزل تفوح منه رائحةٌ غريبة. المهم، وأنا أجلس هناك مع قطيع من الأوباش، وإذ.. أجد أمامي منى!
كانت ترتدي مريولاً أزرقاً كالمراييل التي نرتديها جميعنا، اقتربت مني وقالت: "كيفك؟" لم تكن لهجتها فلسطينية بتاتاً. فرددت: كيف؟ سألتني مرةً أخرى: كيفك؟ انتبهت أنه سؤال فأجبت "منيح".
يومها حدثتني منى كثيراً ومشيت معها مطولاً. أخبرتني كيف أنها تسكن منطقةً لا فلسطينيين فيها، ولم تدخل مدرسة أونروا مطلقاً من قبل، وأنها لا تتحدث لهذا السبب، فهي تخجل من كونها مختلفة، حتى أنها حاولت أن تتحدث مع الفتيات لكنها كما اعتقدت لا تشبههن، ولذا، هي بالتالي أقل منهن!
أذكر يومها أني سرت معها في ملعب المدرسة مطولاً، وكانت أصوات التصفير الغيورة، تعلو من خلفي حانقة لحصولي على هذا الشرف.