مع بداية هذا العام بدأت إرهاصات التغيير البصري تطغى على مقاهي منطقة باب شرقي ومطاعمها، ابتداءً من تجديد الديكورات الداخلية، وصولاً إلى قلب المشهد العام للشارع الرئيسي. «اللمسات» التي أضفاها أصحاب المطاعم تبدو محاولة لاستنساخ مقاهي شارع الحمراء في بيروت، من الرسومات على جدران المقاهي، إلى استبدال قائمة الوجبات والعروضات، وصولاً إلى مسح الطابع الدمشقي الخاص للمقاهي والحانات. محاولة الاستنساخ هذه «ليست مقتصرة على مطاعم عدة»، بل هي وفق أحد أصحاب المقاهي، «اتجاه عام» لتحويل باب شرقي إلى «شارع السهر».
تحوّلت حديقة القشلة إلى «تجمعٍ للحاقدين»
يروي صاحب مقهى «أورنينا» ـ المتوقف عن العمل بسبب أعمال الصيانة ـ مهند عيسى، أن «حركة الزبائن قلّت كثيراً، لأن مقهى أو مقهيين على الأكثر يسيطرون على الأجواء هنا، بسبب التغييرات التي أجروها على محالّهم لتواكب ما تطلبه الشريحة الجديدة من الشباب في البلد». ويشرح عيسى في حديثه لـ«الأخبار»: «لم يعد تقديم وجبات الطعام يجدي نفعاً، أسعارها مرتفعة وهامش الربح فيها قليل. لذلك ترى معظم أصحاب المطاعم يتجهون نحو تحويل مطاعمهم إلى بارات، حيث هامش الربح مرتفع والفاتورة ترضي الزبون».
على هذه الحال، تحولت حديقة القشلة إلى «تجمعٍ للحاقدين». شبّان تراهم يعزفون ويغنون ويشربون على الطريق العام لباب شرقي. حاقدون على ماذا؟ يجيب الشاب نورس المقداد: «على كل من يريدنا أن ننضب في بيوتنا ونسهر سراً. على كل من تزعجه موسيقى الروك ويريدنا أن نتكيف مع مزاجه. هنا، نغني ونعزف ونسهر ونعانق حبيباتنا نكاية بمن يزعجه منظر الفرح». لا تكاد تخلو أغنية واحدة من أغنيات هذه المجموعات من شتائم موجهة إلى المتدينين، وفق منطق يربط بين شتى أشكال التدين وممارسات تنظيم «داعش». يرفض أحمد، وهو مؤلف أغنية «كلكن دعاديش» أي اتهامٍ له بممارسة ردّ فعل غير محسوب على ظهور التطرف، ويقول: «ما الذي يمنعنا من قول الحقيقة كما هي؟ خرجت داعش من رحم الجهل والتخلف الذي أصاب مجتمعاتنا، ولكي نواجهها بشكل حقيقي، علينا أن نواجه المتخلفين من خلال قول الحقيقة لهم، ولو بشكل فج، حتى لو كانت الكلمة تؤذي أحياناً، لكنها في النهاية تؤسس لتأثير كبير على المجتمع».
يصر المهندس ذو الميول اليسارية، ناجي بركات، على تسمية الوضع الجديد في باب شرقي بـ«النموذج اللبناني»، ويرى أن «باب شرقي يتحول تدريجاً إلى مساحة عمل للوجوه المعروفة في الجمعيات غير الحكومية (NGOs)، تماماً كما شارع الحمراء في بيروت»، ويشدد في حديثه مع «الأخبار» على أن «هذه الوجوه المعروفة هي التي تتحكم في المزاج العام وفي عملية التلويث البصري والسمعي في باب شرقي، لتستقطب شريحة الشباب العاطلة من العمل، التي شوهت الحرب وعيها وجعلتها ناقمة على كل شيء». ويعقّب: «لم يعد هناك مكان لمن اعتاد السهر في باب شرقي من باب الترفيه والترويح عن النفس، حيث بات الشعور العام أن البعض يتعامل مع السهر في باب شرقي على أنه أشبه بعملية مواجهة مفتوحة مع كل من يريد الحفاظ على الطابع الخاص في المنطقة».
بدورها تؤكد المتخرجة في كلية الفنون الجميلة، فاطمة ميّا، أنها ـ رغم المرات القليلة التي زارت فيها باب شرقي ـ تشعر بأنها «أجمل منطقة في الشام»، وتوضح: «أحب العمل اليدوي وكل شيء قديم، وفي باب شرقي يوجد هذان العاملان معاً، عدا عن شوارعها المبلطة الجميلة جداً». وتشدد ميّا على أنها لا ترى في السهر آلية لمواجهة التطرف: «أنا بروح مشان غير جو وأنبسط، أما من يريد تغيير الأجواء في باب شرقي فهدفه على الأغلب خلق سوق أكبر غايتها الربح».