أتمّت «دولة أمير المؤمنين» بولاياتها المتناثرة عامها الثاني. فبعد أن كسرت حدود «سايكس – بيكو» بين العراق وسوريا، أعلن المتحدث باسم تنظيم «الدولة الإسلامية»، أبي محمد العدناني، قيام «دولة الموحدين» في الإصدار الشهير المسمّى بـ«كسر الحدود». منذ ذلك الحين، تتوالى إصدارات التنظيم وتتنوّع. شملت أكثر من موضوع، وعكست العلاقة بينه وبين البيئة اللصيقة به. فروّجت الإصدارات لصاحبها كمخلّص وحبل النجاة من براثن «الغزو الصليبي» أو «النظام البعثي»، وحتّى حكومات «الروافض العميلة».كان ملحّاً على التنظيم أن يتطرق إلى واحدةٍ من جملة مرتكزات قيامه: «الأنصار». فأبرز، كعادته، في شريطٍ تسجيلي، أهميتهم من وجهة نظره.
جاء دور «الأنصار»، المصطلح المقابل لـ«المهاجرين»، فهم أبناء البلد أو المنطقة التي تحضن «الجهاد»، وأيضاً «النافرون في سبيل الله».
يؤمّن «داعش» حاجات الناس فيصفهم بـ«الأنصار»

هذه المرة، كان المكتب الإعلامي لـ«ولاية دجلة»، في العراق، منبر التنظيم لعرض «أنصاره». إصدار قصير، اعتمد على مواد أرشيفية جُمعت في شريط تسجيلي بعنوان «الذين آووا وصبروا». دلالته واضحة، شكرٌ من «داعش» لأولئك الذين «احتضنوا المجاهدين قبل أن تقوم الخلافة»، وتحديداً أهالي المناطق النائية في الصحراء العراقية، غربي البلاد. ثناءٌ على ما فعلوه من احتضان وتوطئة قُدّما لعناصر التنظيم، الهاربين من جبهاتٍ عدّة، والباحثين عن مأوى يلوذون به ويكلأون منه.
ثمّة دلالة أراد التنظيم تأكيدها: وجود بيئة حاضنة له، ساهمت عوامل عدّة في تشكيلها، وتطوّرها، ونموّها. يدعّم الفيلم هذه الفكرة. يُظهر أن أهالي غربي الأنبار انتظروا «جنود الخلافة» بعد سنواتٍ من الصبر، بدأت مع أيام الحكم البعثي، حتّى أيام «الغزو الصليبي»، في «ظل حكومة العميل نور المالكي»، بحسب توصيف الفيلم.
يقول أحد أبناء البلدة إن التنظيم «عرّفنا على الإسلام وأحكامه»، بعدما كانوا يجهلونه قبل قدومه. يلعب التنظيم على وتر حاجات الناس. يقارن بين قدومه من عدمه، ويبيّن «إيجابيات» ذلك. يخرج آخر ليقول إن التنظيم عمل على «استجرار المياه»، بعدما كانوا يعانون من شحها. فيستعرض التنظيم «إنجازاته» هناك، من حفر آبار، وتعبيد طرق، ومدّ خطوط الكهرباء، مشيراً إلى قدرة «الخلافة» على أن تحل محل الدولة المركزية.
وبلعبته المعهودة وخطاب المظلومية، يروي التنظيم معاناة أبناء غربي العراق، واضعاً ذلك في إطار الاستهداف الدائم والمشروع «الرافضي»، منذ أيام الرئيس الأسبق صدّام حسين.
هنا، يمكن اختصار معادلة التنظيم. فالبيئة التي تفتقر إلى معظم مقومات الحياة، يمكن لعناصرنا الباحثين عن مستقر، أن يؤمّنوا حاجاتها الأساسية، ليصبحوا تلقائياً «أنصارنا».
أراد التنظيم تكريس هذه المعادلة، وتعميمها، على مختلف «ولاياته». تسليف الناس حاجاتهم مقابل احتضانهم. لا يمكن الجزم بذلك، واعتبار هؤلاء بيئةً حاضنةً للتنظيم، أو مؤيدين للممارساته، بل من الممكن، أيضاً، ملاحظة أن الكثيرين منهم رأوا في ما وقع «أمراً واقعاً»، فُرض عليهم. فالقاطنون في قلب الصحراء العراقية، وعلى الحدود السورية، لم يخرجوا من محيطهم، ولم يكن أمامهم خيار آخر سوى البقاء.
لم تكن متاحة لهم المطالبة بحقوقهم قبل التنظيم، فكيف بعده. ولا بدّ من التعامل مع الواقع المستجد بأن لا مفر منه حتى حين، على قاعدة «عسى أن يقضي ربّك أمراً كان مفعولاً».
ويؤكّد هذا الاتجاه ما يبرز من التسريبات القادمة من «ولايات التنظيم»، وخوف الناس من ممارسات عناصره. وهو أمرٌ يخشاه التنظيم نفسه، ويبرره بعناوين شتّى، كالتعامل مع الغرب أو النظام السوري أو الحشد الشعبي العراقي، وقد لفت إليه التنظيم في إصداره «وحي الشيطان»، منذ أيام.
فالبيئة الحاضنة، لأي تنظيم، لا تتشكّل من تلقاء نفسها، بل تخضع لمسارٍ تراكمي من العلاقة بين الطرفين، تؤدّي في نهاية المطاف إلى تأييده واحتضانه. فمع تزايد حاجات سكّان المناطق النائية، واستمرار تجاهل السلف لبناء مقومات حياتهم، في موازاة اجتياح الخوف والرعب من «جنود الخلافة»، الذين لن يتوانوا في تطبيق «حدود الله»، تصبح النتيجة بيئة ساكتة راضخة، تقبل بما يجري، حفاظاً على نفسها.