مرضى يقصدون أطباء ومشافي العاصمة دمشق بعدما خلت مدينتهم من أطبائها، وأسرٌ، معظم أفرادها نساء وأطفال همّهم اللحاق بمُعيليهم في إحدى المحافظات الآمنة أو في الخارج، وطلاب لم يحرقوا كتبهم ودرسوا في الخفاء عن أعين تنظيم «داعش» ليتقدموا إلى امتحاناتهم، ومغتربون كانوا يقضون إجازاتهم السنوية مع أهاليهم، وهمّوا بالرحيل قبل أن تنتهي إقامات عملهم في الدول العربية. هؤلاء هم أهل الرقة الذين نجحوا في الخروج منها، وتمكنت «الجهات المختصة» السورية من القبض عليهم منذ ما يزيد على أربعة أشهر، في صحراء خالية إلا من شمس حارقة وبعض الحيوانات المفترسة. احتجزوا بحجة التأكد من أوضاعهم الأمنية و«تفييشهم» ثم السماح لهم بالمغادرة، إلا أن هذا الإجراء امتدّ أشهراً من دون وجود أي سبب لاحتجاز هؤلاء المدنيين في ظروف سيئة للغاية. يقول أحد المحتجزين ممن استطاعت «الأخبار» التواصل معهم: «والله وضعنا مأساوي، هربنا من الرقة بلباسنا فقط، واحتجزونا هين (هنا) من حوالي أربع شهور، وصلنا مرحلة اليأس بهي الصحراء الخالية، لو كنا مطلوبين ما طلعنا عالشام، كنا رحنا إلى تركيا أو أي منطقة أخرى، أنا طلعت لأن ابني عندو امتحان الصف التاسع. يا ريتنا ما طلعنا من الرقة».يقع معسكر الاحتجاز الأول في منطقة المثلث الصحراوي الذي أصبح شبيهاً بمثلث برمودا، كل من يدخله يختفي، ويبعد 60 كيلومتراً عن منطقة الضمير، قرب معمل إسمنت البادية ومطار السين العسكري، وفيه حوالى 1500 شخص بينهم 525 طفلا، ويقع المعسكر الثاني في مدرسة السواقة في عدرا العمالية وفيه حوالى 2000 شخص، إضافة إلى معسكر حرجلة في ريف دمشق، ورساس في السويداء، ومعسكر في محافظة حماه، ومعظم تلك الأسر لها أبناء يخدمون في الجيش السوري حاولوا إخراج أهاليهم بكفالة لكن «الجهات المختصة» لم تقبل ذلك. يقول أحد المحتجزين لـ«الأخبار»: «أول ما أجينا كان العسكري يقدر يطالع أهله، وبعدين لغوه للقرار، والمشكلة ما في سبب يستدعي اعتقالنا، إذا كان في مطلوبين للدولة خليها تاخذهم وتطلق سراحنا أما احتجاز بهذا الشكل فلا الله يرضاه ولا العبد يرضاه».
أماكن الاحتجاز الصحراوية مليئة بالأفاعي والعقارب، فضلا عن ظروف الاحتجاز الصعبة، إذ ينام البعض في خيم وزعها متطوعو الهلال الأحمر السوري. كما أن هناك من يحتاج إلى علاج لا يُمكن أن يقدمه المركز الصحي البسيط، في وقت لا يُسمح فيه بخروج أي حالة إسعافية مهما كانت، إلا بعد الحصول على موافقة أمنية. كذلك لم يقدّم الطلاب امتحاناتهم، وانتهت صلاحية إقامة المغتربين وخسروا أعمالهم. يقول موظف ممن علقت أسرهم في أحد مراكز الاحتجاز: «أعيش في دمشق منذ فترة وطلبت من زوجتي أن تترك الرقة وتأتي مع أطفالي لنستقر هنا، لكنهم احتجزوهم. طيب يتأكدوا إذا عليهم شي خليهم يعتقلوهم لكن يحجزون أطفالي بهذا الشكل، وأنا لا حول ولا قوة».
أول ما أجينا كان العسكري يقدر يطالع أهله

«سمسرة واستثمار»

وجد السماسرة ضالتهم في مأساة هؤلاء الناس، وبدأوا عمليات الاحتيال والنصب. وتراوح المبالغ المطلوبة لإخراج عائلة من المخيم بين 100 ألف إلى نصف مليون ليرة سورية. عدد ممن كانوا يملكون مبلغاً من المال، دفعوا كي يخرجوا، ليكتشفوا لاحقاً أن الشخص الذي أخذ المال اختفى. بينما استثمر متنفّذون آخرون مأساة هؤلاء الناس بطرق أخرى، مثل فتح أكشاك قرب أماكن الاحتجاز لبيع الماء وبعض الحاجيات بأسعار مضاعفة.
منذ أيام وصلت دفعة جديدة من النازحين من مدينة دير الزور، وجرى احتجازهم في المكان ذاته، لينضموا إلى أهالي الرقة في مأساة واحدة، غير أن عضو مجلس الشعب الشيخ نواف الملحم استقبلهم ، بينما لم يكلّف مسؤولو الرقة أنفسهم عناء زيارة الآلاف من أهالي محافظتهم، باستثناء زيارة يتيمة منذ أشهر، قام بها رئيس اللجنة الحزبية المؤقتة علي العجيل، لطمأنة المحتجزين أن أمورهم ستُحلّ، لكن وعده لم يتمّ.
يتساءل أحد أبناء الرقة المقيمين في دمشق: «لا أدري لماذا لا يتحرك مسؤولونا لمساعدة الأهالي. تركوهم هناك في الصحراء وحدهم، يُطالبون الناس بالخروج من الرقة وحين خرجوا تركوهم يواجهون مصيرهم وحدهم، لا يشغلهم عن نجدة أهاليهم سوى الولائم، ليس لديهم أي عمل آخر في دمشق».
لا يبدو أن أحداً سيتذكر مأساة هؤلاء المدنيين الذين تورطوا بالخروج من مدينتهم فتاهوا في صحراء كانت ستكون أرحم عليهم من بني جلدتهم. ولا ذنب لهم سوى أنهم حاولوا البحث عن فرصة جديدة للحياة.