حاوية نفايات مرعبة!

قرب حاوية نفايات صغيرة معلقة على عامود كهرباء، وقفت. يا للهول! بحت لذاتي، قبل أن أمضي مسرعةً إلى مكان «آمن». هل أنا مجنونة؟ مكان آمن؟ أين يوجد مثله هُنا؟ وبعد معركة كلامية طويلة بين عقلي وقلبي، وقفت على بعد عشرة أمتار من الحاوية. أمّا لماذا فعلت ذلك؟ فبسبب الخوف!
طبعاً ليس الخوف من التقاط ميكروب أو فيروس «أوه ما أجمل العطلة المرضية... إسهال واستفراغ». لا لا! مؤسف لمقيمة مثلي في لبنان القول إن «الزبالة صارت منّا وفينا عشرة عمر نحن وهي!». لكن من ماذا هو الخوف؟ هي مجرد حاوية نفايات صغيرة، يرمي فيها الناس أوراقاً أو أكياس تشيبس فارغة أو علباً كرتوينة... مهلاً، هي بالقرب من بنك لبنان والمهجر، ذلك الذي وقع فيه التفجير قبل أسبوعين... حسناً؟ نعم حاوية نفايات ممكن أن فيها أحدهم قنبلة ويفجرها عن بعد!

حقيبة «الغريب»

الشمس الحارقة تضرب رأسي، فتبداً حبات العرق رحلتها بالسيل البطيء على ظهري، ومع ذلك أنا سعيدة، فهو يومٌ مشمس وجميل!
لا توفر يدي سائق سرفيس واحد لتلوح له بالنفي «لا يا عم لا أريد سرفيساً!» فجأة يظهر رجل ببنطلون أخضر، وقميص موّرد (أصغر وردة في هذا القميص بكبر حديقة). وقبل أن أسرد نكتة لذاتي كي نضحك معاً على لباس الرجل، أجد الاخير يقتحم مساحتي الخاصة... كم أكره الغرباء! «هلق يا آنسة أنا بدي أسألك وين بناء الكونكورد؟»، يسأل الرجل الغريب، فأشيح بنظري عنه مشيرةً بيدي إلى المبنى: «هناك».
يسير الغريب وقد أصبح خلف ظهري. أنظر إليه وفي قلبي خوف وقلق عميق. كيف لا وهو يحمل حقيبة مهترئة، ومنتفخة! يا الله قد يكون ذاهب إلى المبنى ليفجر حقيبته المشبوهة فيه! كل زملائي في الأعلى! أي مصيبة هذه... وإذا حصل ذلك يمكن أن يستدعيني الأمن للتحقيق «رأيناكِ في كاميرا بنك لبنان والمهجر تتحدثين معه». وسأجيب حينها بأن لا علاقة لي به لا من قريب أو بعيد فقط جاء لسؤالي عن مكان لا يعرفه! وجدت نفسي فجأة أبني سيناريو تخيلياً ليس غريباً كهذا... الرجل!

دراجة نارية مشكورة

«لو سمحتي ممكن تبعدي شوي؟» يسأل راكب الدراجة النارية، طالباً أن أفسح له المجال ليعتلي الرصيف. أبتعد قليلاً مفسحة له المجال، ففي هذا البلد - ما غيره – قانون السير لا يسري على الدراجات النارية، ولذلك تجدها فوق الرصيف أو سائرة بعكس المركبات، أو قاطعة إشارة ضوئية حمراء. وفجأة أجدني أشكر صاحب الدراجة! على ماذا؟ لأنه أزاحني من ذلك المكان القريب جداً من شباك الصرف الصحي!
لو بقيت هناك لطرت، لا بل حلقت، وربما التصق لحم جسدي ودمائي على المباني المتقابلة، وعلى شبابيك السيارات، وربما سيحترق معها بفعل الانفجار الذي سيخرج من... شباك الصرف الصحي! أيصل الجبن إلى هذه الحد؟ نعم أنا كذلك، لأنني أحب الحياة.

صفارة إنذار تخلف جرحى!

في صبيحة اليوم الذي تلى تفجير «بنك لبنان والمهجر»، حرصت على الحضور باكراً في الجريدة، كي يتسنى لي سؤال الزملاء عن شعورهم لدى سماعهم صوت الانفجار. الكُل من دون استثناء (تقريباً) كان – على خلاف توقعاتي- مبتسماً وعادياً كأن شيئاً لم يحصل في الأمس.
يمكنني أن أتفهم ذوبان الخوف، وانصهاره، وتساميه ليصبح بعد أحداثٍ كهذه عبارة عن ذكريات حزينة، وربما مضحكة ومسلية، خصوصاً أن أحداً والحمد لله لم يصب بأذى. لكنني لا أفهم كيف أتت الجرأة زملائي ليسارعوا إلى مكان التفجير، ظناً منهم أن هناك جرحى أو شهداء، وان باستطاعتهم لو حصل ذلك – لا سمح الله- أن يقدموا العون والمساعدة!
أمّا أنا فقلت لهم بوضوح: لو كنت هُنا ووقع الانفجار، لوجدتموني بعد عشر سنوات لا أزال في مستشفى يعالج الناس نفسياً من آثار الكوارث والحروب!
دخلت إلى مكتبي يومها، لم أستطع التفكير في شيء آخر سوى كيف ستكون حالتي إذا سمعت ذلك الصوت المرعب، ولماذا لست مثل زملائي؟ ولماذا لا أستطيع أن أضع حداً لهذا الرعب الذي ينتابني على الأقل؟
تذكرت أنني أتيت من منبع الحرب أساساً، ومن مكان إذا دخلت فيه إلى مجمع تجاري ينتابك شعور بأنك داخل إلى «البنتاغون» لكثرة أماكن التفتيش، والممرات، والأجهزة الإلكترونية، والحراس... لكن مهلاً، إن أبشع ما يمكن أن يحصل للإنسان هو انتظار الكارثة، الكارثة التي تتفضل بإعلانها صفارة الإنذار اللعينة، فتتركك وحيداً عاجزاً خائباً ومهستراً، معطيةً لكَ بعض الثواني وربما الدقائق لتتخيل فيها أن حياتك المليئة بالفرح، والحب، والضحك، والسهر، واللهو، والأصدقاء، والأهل، والإخوة، والكتب، والملابس، كلها ستنتهي... بعد قليل!
وبينما كنت أفكر في ذلك، تذكرت ذلك اليوم الذي وضبت فيه حقيبتي استعداداً للعودة من سكني في جامعة «بيرزيت»، في الضفة، إلى بيتي في الجليل الأعلى. كان عليّ يومها أن أجتاز الحواجز التي تفصل الضفة الغربية عن باقي الأراضي المحتلة، ومن ثم العبور إلى القدس ومن هناك إلى حيفا.
بدا ذلك اليوم سعيداً، خصوصاً أنني سأذهب خلال العطلة مع أصدقائي إلى البحر، البحر الذي لا يوجد منه في الضفة! ولأنني سأرى تلال الجليل الخضراء التي أشتاق إليها من ذلك المكان الذي أراه كصحراء موحشة، وربما سيأخذنا الوالد إلى الحرش القريب في حال أقنعته بحفلة شواء لذيذة مع الويسكي المفضلة لديه... نعم كان نهاراً لطيفاً حتى وصلت المحطة المركزية للحافلات في القدس، وقررت أكل وجبة خفيفة في انتظار موعد الحافلة التي ستقلني إلى حيفا ومنها إلى مجد الكروم.
ومع قضم اللقمة الأولى انطلقت صفارة الإنذار، وصدحت مكبرات الصوت بالعبرية معلنة الاشتباه بحقيبة بالقرب من البوابة 19، حيث كنت أقف. وخلال ذلك طُلب إلينا الانتقال إلى الطابق الأعلى لإفراغ المكان، وفي لحظات جررت فيها حقيبتي، محكمة باليد الأخرى على السندويشة، وجدت نفسي أركض مع الراكضين. لا يمكن لأحد تخيل المشهد! تدافع محتلي بلادي بالآلاف، مستغلين المصاعد والسلالم الكهربائية والحجرية... الكارثة أن الجسم المشبوه كان عبارة عن حقيبة، تركها شاب وذهب يقضي حاجته في المرحاض.
وخلال وقت لا أعرف كم بلغ قصره أو طوله طمأننا الصوت نفسه: عودوا إلى أماكنكم المكان آمن! بطبيعة الحال لم يكن هناك قتلى، لكن عدد الجرحى بسبب التدافع الشبيه بيوم قيامة، وبسبب حالات الهلع التي انتابت الإسرائيليين كان لا يحصى!

مذياع وجرائد لدب الرعب

أحب الإصغاء إلى فقرة الصحف صباحاً عبر أثير إذاعة «صوت الشعب» أو أثير إذاعة «النور»، كلاهما مفضل لدي، فهما يسليان في الطريق الصباحي من صيدا إلى بيروت، ومن خلالهما أيضاً يمكنني الاطلاع على المستجدات التي لا أتنازل عن معرفتها للحظة، وباتت جزءاً من حياتي كما هي جزء من حياة غيري من الناس. بعد الراديو أقرأ الجرائد المتوفرة، أيضاً للأسباب نفسها.
لكن في هذا الصباح لم يكن هناكَ شيء مسلٍّ في صوت المذيعة، لا ولا في تقارير الزملاء الصحافيين. كل شيء سمعته أو قرأته كان بمثابة نعيق غراب يعلن تشاؤماً مقبلاً.
عبر أثير الراديو، سمعت المذيعة تقول إن فلاناً وفلاناً كانوا في زيارة لدولة الرئيس، نبيه بري، وأبلغهم الأخير قلقه، وأن حزب الله وحركة أمل ألغيا مناسبات دينية بسبب الأوضاع الأمنية... وبمجرد انتهاء المذيعة من دب الرعب في نفوس المواطنيين المصغين، مثلي، إلى الفقرة الصباحية، كنت قد وصلت إلى أول نفق سليم سلام، وبدأت أبكي بكاءً هستيرياً، وبقيت على هذه الحال حتى وصلت إلى عملي وبدأت بقراءة الصحف، التي دبت فيّ الرعب أكثر وأكثر!

بين القاع واسطنبول

لا أعرف شيئاً عن تلك المنطقة الحدودية، سوى - كما فهمت من حديث الزملاء والصحف- أنها مهمشة ولا وجود للدولة فيها، لا بل رأيت صور نسائها يتسلحن ببنادق صيد، وكلاشينكوف ويلبسن جعباً، في سبيل حماية بلدتهم التي نال منها ثمانية انتحاريين. نظرت إلى صور النساء (باكية طبعاً)، وتذكرت أنني جازفت يوماً في إمساك بارودة صيد (جفت)، كالتي يحملونها في الصورة، محاولة بفشل أن اصطاد عصفوراً، فمثلي لم يلمس سلاحاً في حياته، ولم يتعرف إليه سوى على خاصرة جندي إسرائيلي. يومها قلت «انشالله ما أقدر أقتل العصفور... حرام خّطية! عم يطير وهو مبسوط ويمكن يكون عنده ولاد صغار رايح يجبلهن دود يطعمهن ياه». وقفت برباطة جأش وشجاعة، واضعة كعب «الجفت» على كتفي، وأصبعي على الزناد، ومع كل الشجاعة التي استجمعتها وجدتني أغمض عيني غير معنية سوى بإطلاق الخرطوش «فلينطلق وتنتهي القصة». واحد... اثنين... ثلاثة: انطلق صوت مدوٍّ يشبه الصفير. وبالفعل استجاب الله لطلبي فلم تصب الخرطوشة العصفور (هذا ليس لأنني لا أفقه بهذه العدة).
حسناً لماذا بكيت على صورة النساء حاملات «الجفت» و«الكلاشن»؟ لأنني بقيت أسبوعاً كاملاً بعد إطلاق الخرطوش أتألم بفعل «نطعة الجفت» التي خلفت دائرة زرقاء متورمة على كتفي! والآن ها أنا أتخيل كيف ستصبح أكتافهن الغضة، المجبرة، بفعل غياب الدولة، وبفضل نهي أمراء آل سعود وأميركا للدولة الغائبة المذكورة آنفاً، عن خوض معركة تحرير أرضها من التكفيريين.
ثمانية انتحاريين؟ ثمانية يا ولاد الله! ماذا تقولون للناس؟ أنكم مستعدون لإرسال انتحاري لكل مواطن لبناني مثلاً؟ وبينما أسأل أسئلة لا إجابات عليها، لأن أبو بكر البغدادي الذي يملك إجاباتها لا يمكن أن يرد على النساء «العورات» مثلي، أجد نفسي متنقلة إلى انفجارات مطار أتاتورك، في اسطنبول.
أعرف تلك العاصمة السياحية الوادعة، أحببتها كثيراً كغيري من السياح، ولي فيها ذكريات جميلة فقد زرتها مرات عدة. وبعدما بكيت على الشهداء الذين لا يختلفون عن شهداء القاع بكونهم ضحايا، والذين من بينهم، كما قرأت، ثلاث عائلات فلسطينية، وجدتني ألعن الساعة التي تابعت فيها الأخبار، أمّا الكارثة فهي أنني بدأت أحسد العميان والصم والبكم! أولئك الذين صاروا كذلك بفعل التطنيش لا بفعل خلق إلهي!

في اقتلاع الخوف

كيف أقتلع الخوف؟ الخوف الذي يشبه ضرساً يئن ملتهباً في مكان ما في فكي. كيف أتوقف عن هذا الشعور البغيض؟
ببساطة... عليّ أن أعرف أنني قد أموت نتيجة سكتة قلبية بينما أنا مستلقية على شاطئ البحر «أحمص» جسدي بكامل فرحٍ وسكينة. وعليّ أن أقول لنفسي وللخائفين والمرعوبين مثلي، إن حياتنا ليست أهم من حياة الذين يقاتلون على الجبهة المقابلة كي يحموا أجسادنا من التشظي بفعل انفجار ما! لا بل إن حياتهم أغلى من حياتنا بكثير، حياتهم التي سيكملونها معنا بكرامة دفعوا لأجلها دمهم النفيس!
والآن فقط صرت مثل زملائي من اللبنانيين، أولئك الجبارون الذين نزلوا ساعة الانفجار لإنقاذ الجرحى والضحايا، وبالعلامة ها أنا أقول لك يا أبو بكر البغدادي لو أرسلت عشرة، مية، مليون انتحاري... نحنا مكملين بالحياة، وفي حب الحياة. وعلى طريقة الرفاق في اعلان بيرة «ألماسة»: «هيدا جونا هيدا نحنا» كاسك! وبصحة إزالة «خلافتك» قريباً من الوجود!