هل تعلم ما هو الموضوع الأكثر شعبية الذي استولى على اهتمام شباب مخيمنا أكثر من الدراسة والمصالحة والعودة الى المفاوضات وحق عودة اللاجئين ووضع القدس، بل وحتى شؤون الفتيات وأمور الزواج؟ إنه: الهجرة غير الشرعية! ولقد كان مثيراً أن وجدنا أحد أبناء مخيمنا يعود إلينا من "البقاع المقدسة" (تسميتنا الساخرة لدول الاتحاد الأوروبي) دون أن ينجح في البقاء هناك، مما جعلنا جميعاً نتساءل: ما السبب يا ترى؟
■ ■ ■


التقيتُ به بعد أن عاد إلى قطاع غزة، إثر خمس سنوات من الهجرة غير الشرعية في أوروبا، قبل أن تحملهُ الأقدار إلى بلدنا مجدداً. هذا الفتى وصل إلى أوروبا: "الحلم الرائع" الذي يداعب كل شاب منا، فما الذي عاد به إلينا، بعد أن وصل إلى هناك؟! كان كثير منا يرون بأن "الداخل إلى غزة مفقود والخارج منها مولود" بسبب أزمة معبر رفح التي لا أدري متى ستنتهي.

قررتُ أن أجلس معه لأفهم السبب، فقد كان الفضول يقتلني قتلاً. كنتُ أتحينُ الفرصة الملائمة كي أفتح الموضوع معه، ولكن هذه الفرصة تأخرت لشهور طويلة. كان يمضي في المخيم صامتاً كأنه.. كأنه ماذا؟ لست أدري. لم أجد التشبيه المناسب، لكنه كان مطبق الصمت! حاول البعض الحديث إليه لمعرفة السبب، فلم يقدم لهم سوى إجابات مقتضبة، وكذلك فعل أهله. "ليكون الشاب عامل عملة؟!" بدأ البعض يفكرون في إجابة لهذا السؤال، إلا أنه قد تبين لي فيما بعد أن الإجابة كانت أبسط من ذلك بكثير. تتابعت الشهور إلى أن نسيه السواد الأعظم من المخيم في زحمة الحياة.

■ ■ ■


جاء يوم لا زلتُ أذكره جيداً: كان يوماً حاراً من أيام تموز/ يوليو. حتى مساؤه كان لاهباً بفعل الصيف. جاءتني الطرقات على باب منزلنا وأنا غارق في العرق، وقد فشلت المروحة الصغيرة في غرفتي بأداء وظيفتها في التخفيف من هذا الحر. قمتُ متباطئاً نحو الباب. كان أذان المغرب قد حل منذ دقائق، وموعد انقطاع الكهرباء-التي نحظى بها ست ساعات في اليوم فحسب- قد اقترب، وبالتالي لم أرغب في ترك شاشة الحاسوب ولو لدقيقة واحدة، ولكن ما العمل؟! كنتُ وحيداً يومها في المنزل. توجهتُ لفتح الباب فوجدته أمامي! كدتُ ألا أصدق عيني! أخرستني المفاجأة، فيما قال لي هو بإحراج واضح: "مرحبا أخي. أعذرني لو أجيت بوقت غير مناسب، لكن أنا سمعت إنك شاب ما شاء الله عنك مثقف وبتقرأ كتير. كنت حابب أستعير كتب أو روايات من عندك لو بالاقي، لأني صارلي فترة قاعد في البيت مع البطالة وقلة الشغل. ممكن؟!". سارعتُ بالترحيب به، وأدخلتهُ المنزل، لأجلب له كأساً به "مشروب غازي" من باب الحفاوة والضيافة، ومن ثم جلبتُ له مجموعة من الروايات اختار اثنتين منها، ثم غادرني بعد أن تبادلنا حواراً قصيراً تقليدياً عن السؤال عن الأهل والأحوال، ومن ثم حدد لي موعداً لإعادة الروايتين. كان ملتزماً للغاية وأعادهما في الوقت المحدد.

■ ■ ■


مع تتالي الشهور، صرنا صديقين حميمين. كان قد تمكن بمعجزة ما من العثور على وظيفة بسيطة في إحدى المؤسسات الخاصة، ولنمضي العديد من المساءات في إحدى المقاهي لنلعب سوية لعبته المفضلة بشدة: الشطرنج. كان متفوقاً فيها إلى حد بعيد، ولم أكن أستطيع هزيمته إلا مرة كل عشر مباريات، لكنني وجدتُ اللعب معه ممتعاً، مع تناول فنجانين من القهوة، وأنفاس "الأرجيلة" بطعم "معسل التفاحتين" لكلينا. طاب لي الحديث معه في مختلف شؤون الحياة، فقد تبينتُ أن الشاب مثقف بالفعل، طيب المعشر، وذو فكر ثاقب. قال لي: "أنا تعبت من المخيم يا صاحبي: غبت عنو خمس سنين، لفيت فيهن نص أوروبا ورجعت ولقيت "العي عي والصي صي" بها المخيم! (أي: أنه قد وجده على حاله دونما تغيير يُذكر)".
سحبتُ نفساً عميقاً من "أرجيلتي"، قبل أن أجيبه بسؤال طال انتظار إجابته: "طيب ما انتا كنت هنا يا صاحبي. إيش اللي صار في مخك وقليت عقلك ورجعت ع ها البلد؟!". سحب هو نفساً عميقاً من أرجيلته، قبل أن يبدأ قصته: "ايييييييييييييييييه! قصة طويلة يا صاحبي..".
تخرج هو من إحدى جامعاتنا المحلية في برمجة الحاسوب بمعدلات ممتازة، ومن ثم استطاع الحصول على منحة إلى ماليزيا لدراسة الماجستير، حيثُ حاول من هناك الانتقال إلى أوروبا بأي وسيلة لكنه فشل في ذلك. في نهاية الأمر، تدبر المسألة من خلال قطع تذكرة سفر إلى أوكرانيا، وبجواز سفر تركي مزور، استطاع الوصول إلى فرنسا كمحطة مرور "ترانزيت" بحسب تذكرته، بينما كانت وجهته الحقيقية هي النرويج.
ساعتها قلتُ له استنكاراً: "مجنون إنتا؟! النرويج بطلت تقبل طلبات لجوء للفلسطينيين من سنة 2009!! مين الغبي اللي دلك ع ها المدلية العاطلة؟ (النصيحة السيئة؟) لو بتضل مليون سنة ما راح يعطوك اللجوء".
أضاف المزيد من قطع الفحم إلى "راس أرجيلته". سحب نفساً للتأكد من "العيار". هز رأسه في رضى، ثم التفت إلي وهو يقول: "تستعجلش ع رزقك. القصة لسا بأولها..".

■ ■ ■


أمام مكتب شرطة الجوازات، سألوه: "أين جواز سفرك؟ "، قال لهم: "لا يوجد"! فتشوه فلم يجدوه معه. كان قد تخلص منه في مرحاض الطائرة. طلبوا منه ساعتها أن "يبصم" كي يغادر المطار، وساعتها "ركبتو التناحة" (العناد)، ورفض لأنه يدرك أن وجود "بصمته" في فرنسا معناه أنه قدم لجوءه لها ولن يستطيع اللجوء لأي دولة أوروبية أخرى. حاولوا إقناعه دون جدوى لساعات، قبل أن يتمكن شرطي من إقناعه: "هذه مجرد بصمة جنائية للتأكد بأنك لست "مجرماً"، بعدها يمكنك السفر إلى حيثما شئت..". وصل إلى الدنمارك بشق الأنفس: كان هنالك بينها وبين النرويج قطار سريع يقوده إليها في وقت قصير. أمسكت به الشرطة الدانمركية قبل أن يركب القطار، لتقتاده إلى مخفر الشرطة وهناك اضطر إلى "التبصيم" في الدنمارك من أجل تقديم طلب للهجرة وكله أسى بأنه لم يتمكن من تحقيق حلمه بالوصول إلى النرويج. في اليوم التالي، قال له المحققون: "هنالك بصمة لك في فرنسا. سيتم تسليمك للفرنسيين طبقاً لاتفاقية دبلن"! تبين له بأن الشرطي قد خدعه، و"إنو أكل خازوق مرتب"!
قال لي: "أول ما وصلت فرنسا، رموني في الشارع: ما أعطوني لا مصاري ولا سكن. لقيت حالي بالشارع. كانت الدنيا شتا وبرد ودرجة الحرارة 14 تحت الصفر! تخيل؟! عرفت من خلال مهاجرين قدام تعرفت عليهم إنو فيه مراكز إيواء للمشردين بتقدملك وجبة واحدة باليوم تعيسة جداً، ووممنوع تكون في غرفتك بالنهار. بيسكنوك فيها من الساعة سبعة المسا بس. دورت على شغل ما لقيت: طلع ممنوع على اللاجئ اللي زيي إنو يشتغل بفرنسا إلا إذا أخد إقامة، والفرنسيين ما أعطوني إياها وكان صارلي اربع شهور عندهم. طيب: شو العمل؟! قررت أهرب من فرنسا".
نفث نفساً آخر من "الأرجيلة"، ثم التفت إلي مجدداً: "أول دولة رحتها بعد هيك هيه السويد واشتغلت هناك سنة تقريباً بدون أوراق رسمية بمحل "بيتزا" لواحد لبناني. لما مسكوني، رجعوني لفرنسا. ونفس القصة تكررت بالنمسا والنرويج وألمانيا. كل مرة هيك. لقيت إنو أوروبا "كذبة كبيرة" بالنسبة إلي. قلت: ليش الطويلة وليش القصيرة؟ تقاتلت مع المرة (المرأة) المسؤولة عني بمكتب المهاجرين وقلتلها: لو ما لقيتولي وسيلة إني أرجع ع غزة خلال أكم من يوم، راح أكسرلك هاد المكتب ع راسك! بطلت بدي إياها أوروبا تاعتكو! كان راح من عمري خمس سنين. خمس سنين من أحلى سنين عمري راحو ع الفاضي في رحلة البهدلة هاي.. الوجع والندم اللي جواي ما يعلم فيه إلا الله. هادا اللي صار يا صاحبي والحمد لله على كل حال. هاي نصيبي من الدنيا. ما علينا: دوري والا دورك هلقيت في اللعبة؟!".