لم يفصلني عن فلسطين سوى شريط من الاسلاك الشائكة، لو أردت تجاوزه لنزعته بأسناني. في تلك اللحظة التي كنت أقف فيها أمام مستعمرة "المطلة" عرفت حرفياً سخافة الحدود. في تلك اللحظة شعرت بضعفي، فأنا ملتزم بحدود رسمها العدو، لا أستطيع تجاوزها او الاقتراب منها. تأكدت أكثر أن الحدود مصطنعة وموجودة فحسب في عقولنا ونفوسنا.
فالأرض تحتي حيث أنا واقف (سهل مرجعيون) تمتد الى هناك، وهناك هي فلسطين، حلمي ووطني الذي هُجر منه أهلي. لو لم يكن ذلك الشريط موجوداً لكنا أكملنا سيرنا الى هناك، ولكانت رحلتنا لا تقتصر على المناطق اللبنانية فقط. ربما كنت سآخذ زملائي الى قريتي، فهي لا تبعد عن الحدود اللبنانية سوى 20 كيلومتراً. تصوروا؟ عشرون كيلومترا فقط! لو لم يكن ذلك الشريط موجوداً لكنا اجتزنا سهل الخيام وذهبنا الى جنوب الجنوب، وبالمناسبة كل طرقات الجنوب توصل الى فلسطين، لكنا فعلنا كل ذلك، لو لم يكن عدوي والحدود هناك.
على بوابة المطلة وقفت وتأملت جمال فلسطين. في تلك اللحظة شعرت بأنني رجل مسيّر بلا إرادة. بلا تفكير. بلا منطق. مجرد مشاعر بحتة تشدني للاقتراب أكثر ما يمكن من الحدود، لإشباع عيني وروحي من فلسطين امامي.
ببساطة تخيّل حلمك أمامك ولا تستطيع لمسه. تخيّل وطنك المحروم منه أمامك ولا تستطيع رمي نفسك على ترابه وتقبيله. تخيّل أكثر مخلوقات الأرض إجراماً بحق بشعبك أمامك ولا تستطيع القيام بعمل ما ضده. تخيل انك محروم كل ذلك بسبب شريط حديدي تافه يفصلك عما تتمناه.
في زيارتي السياحية الى جنوب لبنان، رأيت فلسطين للمرة الأولى. تمعنت في مناظرها، في اهتمام وترتيب الصهاينة (وهو شيء يجب الاعتراف به لهم) للأراضي الزراعية. مررنا على طول الحدود مع فلسطين، خيّل إلي بأن سيدة مسنة تعبة تنظر الى من بعيد وتنتظر منذ 67 عاماً عودة أحفادها. في تلك اللحظة عادت صورة المخيم الى رأسي، وكيف يعيش أبناء المخيمات فيها. كيف حرمنا العدو من هذه الأرض الجميلة التي أنظر اليها. كيف يتحمل الفلسطينيون عنصرية بعض اللبنانيين، وكيف يُنظر اليهم بدونية، وكيف تستعمل كلمة «فلسطيني» كشتيمة في بعض الأحيان. في تلك اللحظة عرفت لماذا نتحمل كل ذلك، لأننا حقاً «نزرع الأمل» في نفوسنا. الأمل في التحرير وترك المخيمات خلفنا والعودة الى أرضنا. قد لا يحصل ذلك اليوم او غداً او بعد 10 سنوات، لكن الحتمية التاريخية تقول ان المحتل في النهاية سيرحل يوماً ما.
بالقرب من مستعمرة المطلة، رأيت وزملائي عدونا الذي وقف قبالتنا بشكل استفزازي (كانت المسافة بيننا 20 مترا تقريباً). وددنا لو بإمكاننا ضربه، لكننا وللتعبير عن غضبنا أهديته إصبعي الأوسط لأن هذه اللغة الوحيدة المفهومة عالمياً. هكذا، وبعد التقاط صور «السيلفي والعدو خلفي»، وعندما استعددنا للرحيل، يصرخ أحد جنود الصهاينة «خليكو لوين رايحين»، يرد عليه زميلنا «تعا إنت لهون». في هذه اللحظة يشهر جندي آخر بندقيته في وجهنا ويطلب منا الرحيل شاتماً ...حزب الله!
نرحل ونكمل طريقنا الى بوابة فاطمة، هناك ظهر جزء من الجليل الأعلى. تأملت البساتين، والبرك الاصطناعية، والبيوت. تأملت الأرض، والسماء، وانقسام الغيم بين لبنان وفلسطين. في تلك اللحظة حاولت إمساك دمعتي، لكنني فشلت. بكيت. مجدداً تعصف في رأسك مئات الأفكار. هل فلسطين حقاً جميلة الى هذا الحد؟ هل جمالها طبيعي ام مصطنع بسبب اهتمام كيان العدو بمزارعيه؟ لماذا يتخاذل القادة الفلسطينيون، لماذا يوافقون على مبادلة الأراضي؟ هل رأوا جمال فلسطين ليستسهلوا الموافقة على مبدأ المبادلة؟ من على بوابة فاطمة وأمام فلسطين اقتنعت اكثر بمظلومية الشعب الفلسطيني، وبالحرمان الذي يعيشه أبناء المخيمات، اذ ينسى بعض اللبنانيين ان من يستهزئون بهم يملكون أراضي واسعة في فلسطين وهم من «الملّاكين» فيها. في تلك اللحظة شتمت في قلبي كل من يقول إننا نسعى الى التوطين، فمن لديه هذا الجمال لن يقبل العيش في مخيمات لا تدخلها أشعة الشمس، في مخيمات أصبح مرض الربو فيها مثل الرشح عند عامة الناس. وإذا كان هناك مشروع حقيقيّ للتوطين فإن لبنان لن يكون أحد البلدان المستقبلة للاجئين، فالدول الاسكندنافية واميركا عرضت توطين ما يقارب مئات الالاف من الفلسطينيين حينها سنأخذ جنسية تلك البلدان، ونعود بها الى وطننا الأم، الى ديارنا.
نترك بوابة فاطمة ونكمل رحلتنا في الجنوب. تصبح فلسطين تحتنا. نمر بالقرب من مستوطنة مسكاف عام القابعة على كتف جبل. أجزم يوماً ما بأنني سأكون هناك في فلسطين، وسآخذ صورة «سيلفي ولبنان خلفي».