تستحقّ التطورات العسكرية في حلب كلّ ما قيل فيها. صحيح أنّ سيطرة الجيش وحلفائه على كامل المدينة دونها تعقيداتٌ كثيرة، وأنّ المغامرة بتخيّل جدول زمني لحدث من هذا النوع سابقةٌ لأوانها، لكنّ ما أُنجز حتى الآن من تطويق للأحياء الشرقيّة وبسطَ السيطرة سريعاً على واحد من أشهر معاقل المسلّحين (حي بني زيد) لا يقلّ أهمية في المنظور العسكري عن استعادة كامل المدينة، بل يفوقه أهميّة في حديث الاستراتيجيا. ثمّة تفاصيلُ بارزة أيضاً تتعلّق بالمنحى السياسي، ولعلّ أبرزها تأخّر الإدارة الأميركيّة في تبنّي موقفٍ مُعلن من تطوّرات عاصمة الشمال. ويبدو من السذاجة الركون إلى تفسير هذا التأخر على أنّه «رضوخٌ» من نوعٍ ما، بل هو أقرب في واقع الأمر إلى موافقة ضمنيّة على ما «أُنجز» مع تحفّظات على الخطوة القادمة.
طرف «تائه» وسط هذه المعمعة تُمثّله
«المعارضة السياسية»
وبرغم أنّ التكهّن بالحدود التي ذهبت إليها التوافقات الروسية الأميركية في الملف السوري ليس مهمّة يسيرة، لكنّ الثابت أنّ كلّاً من الطرفين ما زال يحتفظ بـ«خطوط حمراء» وهو على استعدادٌ للذهاب بعيداً في حمايتها. في حديث «الخطوط الحمراء» ثمّة واقعة لم تنل نصيبها من الضوء الإعلامي: استهداف الطيران الروسي لـ«جيش سوريا الجديد» (التابع مباشرة للأميركيين) منتصف حزيران الماضي في منطقة التنف الحدودية. وهو استهداف «أسِف» وزير الدفاع الأميركي لوقوعه. أمام هذا المُعطى، سيصعب فهم الموقف الأميركي في شأن حلب إلا إذا جرى التعامل معه من زاوية أنّ حصار مسلّحي الأحياء الشرقيّة لم يعُد «خطّاً أحمر» أميركيّاً، بعدما صار أمراً واقعاً، وأنّ الخطوط انتقلت إلى ما بعده. تصريحات الخارجية الأميركيّة التي تأخّرت إلى ما بعد إطباق الحصار لم تتحفّظ على الحصار في حد ذاته، بل حاولت «وضع ضوابط» لما بعده. «أي عمليّة روسيّة في حلب يجب أن تنال موافقةً أمميّة»، قال المتحدّث باسم البيت الأبيض جون كيربي، واصفاً «الإجراءات الانسانية» التي أعلنت عنها موسكو بأنها «تبدو في الحقيقة محاولة لإجلاء المدنيين قسراً ولدفع الجماعات المسلحة على الاستسلام». وغير بعيد عن الرؤية الأميركيّة كان بيان رئيس مكتب العمليات الانسانية في الأمم المتحدة ستيفن أوبراين يركّز على ضرورة «أن تحصل هذه الممرات (الآمنة) على ضمانات جميع الأطراف» وألا «يجبر أحد على الفرار عبر طريق محددة أو إلى وجهة معينة». وفي الفلك ذاته دار حديث السفير البريطاني لدى الأمم المتحدة (ماثيو رايكروفت) الذي رأى «الممرات موضع ترحيب إذا أجازت نقل المساعدات»، رافضاً فكرة استخدامها «لإفراغ حلب» تمهيداً للهجوم على المدينة.
للصمت التركي أيضاً دلالاتٌ بارزةٌ ورصيدٌ لا يُستهان به. هل يعني هذا أنّ حلم «العثمانيّة الجديدة» بـ«تاجٍ حلبيّ للسلطنة» قد تلاشى؟ يُرجّح ذلك. الحلقة الفرنسيّة تكاد تكون «الأضعف» في الكِباش الحلبي، وخاصّة في ضوء التطوّرات التركيّة. بهذا المعنى، يغدو البيان المشترك (بضرورة فك الحصار عن حلب) الذي صدر عن وزير خارجيّتها ونظيره البريطاني أشبه بـ«شيك بلا رصيد»، ومجرّد محاولة لتسجيل موقف إعلامي لا أكثر. التعامل السوري الرسميّ مع «إنجاز حلب» يستحق التوقّف عنده طويلاً. الرسالة التي وجّهها الرئيس بشار الأسد إلى «جميع أبناء الشعب السوري» مثّلت سابقةً من نوعها، وخاصّة في ظل تزامنها مع صدور المرسوم التشريعي الرقم 15 بمنح «عفو لكل من حمل السلاح وكان فارّاً من وجه العدالة إذا بادر إلى تسليم نفسه وسلاحه». ومن المنتظر في ضوء المعطيات المتوافرة أن تسعى دمشق وحلفاؤها إلى السير في خطّين متوازيين: أوّلهما مواصلة العمليّة العسكريّة نحو أجزاء من الأحياء الشرقيّة والسعي إلى تضييق الخناق تدريجيّاً، وثانيهما السعي إلى تحقيق «اختراقات» في طريقة التعامل مع المسلّحين الراغبين بـ«تسوية أوضاعهم». للمسار الثاني انعكاساتٌ مباشرة متوقّعة على الأول، إذ يفتح الباب أمام استعار الخلافات بين المجموعات المسلّحة التي تعاني أساساً من انعدام الانسجام في ما بينها. في المقابل؛ يُدرك المسلّحون أن خروج حلب من اللعبة سيُمثّل ضربةً قاصمة. هم لم ينسوا أساساً ضربة حمص، وما زالوا يدفعون ثمنها حتى الآن. ومن المنتظر أن تكونَ تبعات حلب أكبر وأخطر، سواء في ما يخص الانعكاسات المباشرة التي تعني في ما تعنيه أنّ معركةَ إدلب «صارت أقرب»، أو ما يخصّ الانعكاسات المعنويّة التي تشتملُ على فقدان ورقة حلب بكل ما لها من ثِقَل على جميع الصعد. وربّما كان اختيار «جبهة النصرة» هذا التوقيت بالذات للإقدام على خطوة «وازنة» من عيار «فك الارتباط» بمثابة «ورقة أخيرة» يقامر بها أبو محمّد الجولاني بضوء أخضر من تنظيم «القاعدة» الأم. ومع الأخذ في عين الاعتبار أنّ تظهير نتائج الخطوة «القاعديّة» على الأرض ما زال بحاجة إلى بعض الوقت، فمن المرجّح أنّها تأتي في سياق محاولات الدفاع عمّا «بعد حلب». يبقى طرف أخير «تائهٌ» وسط هذه المعمعة تُمثّله «المعارضة السياسيّة»، ويبدو أنّ معظم أطيافها ما زالت في انتظار أصوات من هنا وهناك لتتحوّل إلى أصداء لها.