نتفة هوا

  • 0
  • ض
  • ض

"شو يا أسعد"، ينطق جودة أبو خميس الشخصية الأثيرية من مسلسل "ضيعة ضايعة"، التي يؤديها الممثل السوري القدير باسم ياخور في حديث مع "أسعد"، وهو المبدع – ولكن المرحوم ــ الآخر نضال سيجري.

يشاهد الشبان في أحد مقاهي المخيّم الصغيرة هذه المشاهد وتصدح أصوات "الأراجيل" عالياً، فيما المكان الضيّق يغصّ بالدخان، والشارع الصغير للغاية يجعل من يمرّ به داخل المحلّ وبين "المْأَرجلين" أنفسهم. تلك الحالة المدهشة من الجلوس بداخل الطريق وعبره جعلت كثيرين يقررون غزو مقاهي "الشارع" في المخيّم، لا لأنّهم يحبونها بالتأكيد، ولكن لأنّها أخف و"أشرح" من الجلوس في المنازل في هذا الحرّ اللاهب.
لا نتحدث هنا البتة عن 100 مقهى، ولكنْ على الأقل هناك عشرون داخل المخيمات البيروتية للعائدين الفلسطينين: 10 منها في المخيّم الأكبر، فيما تتوزع الباقية حول المخيّمات والتجمعات الفلسطينية (سعيد غوّاش والداعوق بجوار مخيّمي صبرا وشاتيلا). أبو سمرا (وهو لقب تحببي نظراً إلى سمار بشرته) وهو أحد أصحاب واحد من هذه المقاهي المنتشرة بداخل مخيّم برج البراجنة، ليس فلسطينياً، وليس فلسطينياً سورياً حتى، بل هو سوريٌ من القامشلي. أبو سمرا اكتشف أنَّه يستطيع افتتاح محلّه الخاص داخل المخيّم (بضوابط كثيرة بالطبع، ولكن أقل من الخارج، على الأقل مادياً)، وأنَّ الأمر مربحٌ إلى حدٍّ كبير. أبو سمرا يصرّ على أنّه لم يفتتح المحل إلا لأنه وجد "حاجة" داخل المخيّم لهذا العمل، فضلاً عن أنَّ أصدقائه بغالبيتهم هم من المخيّم، لذلك يمكن اعتبار أنَّ المحل نتيجة للحاجتين: "حاجته، وحاجة المخيّم وشبابه".
من جهةٍ أخرى، يبدو البحث عن "مقاهي" المخيّم أشبه بضرب من السحر، لأنه في المعتاد لا أحد يحب الحديث خارج الإطار المعنيّ، يعني لا أحد يرغب في أسئلةٍ من نوع: لماذا لم يفتح خارج المخيم؟ أو من هم زبائنه؟ أو هل يبيع "الحشيش" مثلاً كما يحلو لسكان خارج المخيّم التخيّل؟ أو هل لديه سلاح في المكان؟ وهل يعمل في تجارة السلاح حتى؟ طبعاً هذه الأسئلة قد لا تعود على الباحث بفائدة، إذ إنه في حال طرحها، يبدو الضيق على وجه صاحب المكان، وسرعان ما تشعر بأنه يريدك أن ترحل. طبعاً، هنا عليك أن تبتعد تجنباً للتوتر، لكن ذلك في نفس الوقت دليلٌ على أن هناك شيْئاً ليس "صحيحاً". وقبل أن تأخذك حماسة الصحافي والقارئ والباحث، يشرح لك أحد المداومين في تلك الأماكن أن الموضوع ليس أمراً "محرماً أو معيباً أو حتى ممنوعاً". الفكرة بأنَّ كثيراتٍ من أمهات المخيّم ضايقهن وجود مقاهٍ من هذا النوع بين البيوت، وهذا النوع تعني: مقاهٍ تبقى مفتوحة حتى ساعات متأخرة من الليل، ينتشر حولها شبابٌ زعران (طبعاً الأزعر هنا صفةٌ قابلةٌ للنقاش بشدّة، لأن أي أحد يمكن انطباق وصف أزعر عليه بحسب من يصفه بذلك)، تنتشر الشتائم و"المسبات" في تلك الأماكن، فضلاً طبعاً عن الدخان الكثيف والجو الخانق. كل هذا كان يدفع الأمهات إلى "كره" تلك الأماكن التي يعتقدن أنّ أبناءهن "فريستها". أضف إلى كل هذا بالتأكيد انزعاج كثير من الرجال من الضجة التي تسببها أماكن كهذه، فضلاً عن الإسلاميين الذين تضايقهم "أماكن اللهو" هذه. لكل هذه الأسباب مجتمعة، وبحسب صديقي "ساكن" تلك الأماكن، لا يمكن هذه المحلّات أن تبيع شيئاً مخالفاً للقانون، أو أن تعمل بها أو تقاربها حتى، فأي خطأ مثل هذا سيدفع اللجنة الأمنية إلى إغلاقها بسرعةٍ ودون رجعة.
في الختام، يعود صاحبي ليخبرني بكل وضوح: هذه الأماكن، سواء أحببت أو لم تحبّ، هي متنفسٌ أخير لشباب هذا المخيّم، متنفسٌ وحيدٌ أحياناً، فنحن ليس لنا مكانٌ خارج المخيّم، فنحن غير "مرغوب" فينا أبداً خارجه، هنا نشعر بأننا معاً، أقوياء، دون قيود، لذلك نمارس شيئاً من حرياتنا كما نحب. المشكلة الكبرى أنَّ الجميع يريد إغلاقها، لكن ما يطمئنني – يصر صديقي – أنَّ الإسلاميين فقدوا تأييد الناس ومحبتهم، لذلك فإن كلامهم عن إغلاق هذه الأماكن لن يكون له تأثير كما كان قبل سنوات، ويختم بـ: الحمد لله.

0 تعليق

التعليقات