قصة حبّ من جبشيت إلى غزة

  • 0
  • ض
  • ض

لم أتخيّل في حياتي أن تكون رحلتي إلى فلسطين بهذه السرعة. أملي كان أن آتي إليها بعد التحرير، كما عدنا إلى بلدة جبشيت في جنوب لبنان عام 2000. رغم ذلك، ما حدث أجمل من كل الأمنيات. صار لي بيت في فلسطين، حالياً في غزة، «قلعة الصمود»، لأنني سأعود يوماً إلى قرية (زوجي) لي في قضاء الرملة، اسمها عاقر.
سمعت كثيراً عن صعوبة الحياة في القطاع، لكنني وجدتها لا تختلف كثيراً عن متاعبنا في لبنان. صحيح أن الحصار هنا يضرب أطنابه، ولكن حياة الناس مليئة بالحرية أولاً، وبالمحبة ثانياً. لذلك أتيت من دون تردد، حاملةً فرحتي بين يدي، وغير آبهة لما يقال عن... سيناء وداعش والحرب، وغير ذلك.
من جنوب لبنان المحرر، إلى جنوب فلسطين المحتل، أو المحاصر. هناك اختاره قلبي، ووجدت معه راحة نفسي. التوافق بيننا ــ رغم الاختلافات الكثيرة ــ كان على أشده.

كأننا توأم. لكن، ممنوع عليّ أن ألتقيه، فضلاً عن أن أتزوجه! لماذا يعارضون سعادتي، ويهمشون إرادتي ومشاعري؟ لماذا يهوّلون علي حلمي، ويحذرونني من المضي في هذا الطريق.
لا أحد منهم يشعر بما في قلبي: الحب في بلادنا صار أسطورة أو خرافة، بعدما طغت عليه الحواجز والمعابر، والحروب والفتن.
نعم، لقد رسموا بين بلادنا حدوداً لكنهم لم يستطيعوا رسمها في قلوبنا. قالوا إننا كالعصفور والسمكة، لا يمكننا العيش معاً. هو من غزة وأنا من جبشيت. لم يعلموا أننا كالعصفور والهواء، أو كالسمكة والماء.
«قصتنا صغيرة، من بلد واحد قسّموه، ومن دين واحد فرّقوه، ومع هيك رح نبقى من بلد واحد ومن دين واحد، ما بتفرقنا حدود وهمية ولا مذاهب مهتريّة، بيجمعنا الأكبر من هيك الإيمان والقضية». هكذا كنت أردد لنفسي. ووعدته: سنبقى معاً رغم كل ما يدعونا إلى الافتراق. إنها حياتنا ونحن وحدنا من نختارها. وفعلاً، لم يستسلم أي منا رغم المحاولات الكثيرة لتفريقنا. خمس سنوات وحبّنا يقاوم. كلانا أصلاً من وطن مقاوم. نحن كما قال محمود درويش: «كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة، وجدنا غريبين يوماً... ونبقى رفيقين دوماً».
من مطار بيروت، مضى الوقت سريعاً حتى وجدت نفسي في مطار القاهرة. كانت الساعة تشير إلى التاسعة والنصف مساء. قاومت النوم هناك حتى الرابعة فجراً حينما أتت حافلات الترحيل التي ستقلنا إلى غزة. كان الطريق طويلاً. اتكأت على فستان زفافي الذي أحضرته معي من لبنان، ورحت في نوم عميق مع أحلامي التي قاربت التحقق.
دخلنا صحراء سيناء الحارّة. مررنا على حواجز التفتيش التي أوقفتنا أكثر من مرة. وانقطع إرسال الهواتف المحمولة عدة ساعات، فيما قلق زوجي في غزة وأهلي في لبنان يزداد. أنزلنا الجنود من الحافلة عند أحد الحواجز لأن اسمي لم يكن مع آخرين من ضمن المرحّلين. مع توسطات كبار السن سمحوا لنا بإكمال المرور.
«قليلاً ونصل»، سمعتها كثيراً، ولكننا بقينا نسير طويلاً. كان يتهيّأ لي أنني أرى بوابة معبر رفح. كانت كالسراب سرعان ما تختفي بعدما تلمحها مخيلتي. اثنتا عشرة ساعة من القاهرة إلى رفح. وصلنا في الخامسة عصراً. كان الزحام شديداً في القاعة المصرية، ومعه تفتيش الحقائب دقيقاً. وجب عليّ الاقتراب كي أميّز الأسماء التي ينادون بها بسبب الضجيج. مضت ساعات عدة حتى سمعت اسمي. عندما قدمت هويتي اللبنانية رفضها الضابط وطلب مني هوية زوجي. قلت له إن زوجي أرسلها لهم عن طريق الصالة الفلسطينية، وبعد بحث ملح وجدوها، فختم لي بالعبور إلى غزة بعد سبع ساعات من الانتظار.
قلبي، في تلك اللحظات، كانت لا تسعه الفرحة. دقائق قليلة وأصل. اجتزنا بوابة فلسطين في الثاني عشر من أيار الماضي. الساعة الثانية عشرة واثنتا عشرة دقيقة. لن أنسى هذا التاريخ أبداً. تذكرت أغنية كنا نسمعها وكنت على يقين بتحققها: «على أرض الوطن المحروس رح نتلاقى يوماً ما»، وكما قالت جولي: «انتهى الكابوس وأشرقت الشموس، والتقينا من جديد».
هذه المرة إلى الأبد. أخذني زوجي بيده إلى الخارج حيث كان أهله وأقرباؤه بانتظاري. احتضنتهم بشوق وبحب أنساني كل التعب. سرعان ما جاءت المفاجأة: زفة شعبية فلسطينية على المعبر، شارك فيها من يعرف العريس ومن لا يعرفه.
بمجرد دخولي منزلي الجديد، شعرت بدفء بيتنا في الجنوب. عن أي غربة يتحدثون؟ وجدت في أمه حنان أمي، وفي أبيه عطف أبي، وفيه سعادتي الأبدية. لقد انتصر الحب، وأتى الزفاف ليتوّج صبر السنوات الخمس. لم يكن بمقدور أهلي الحضور إلى غزة واكتفينا بالوداع في بيروت. كنت على تواصل مستمر معهم، أطمئنهم إلى أنني سعيدة جداً وإلى أن غزة أكبر مما كنا نخاف. صادف أن الحجز المتاح في الصالات القريبة كان في الحادي والثلاثين من أيار. هو التاريخ نفسه الذي تعارفنا فيه منذ خمس سنوات!
تم الزفاف كما خططنا له. حاولت فيه أن أسيطر على دموعي الفرحة والحزينة، وأعطي كلاً منهما حقه بالنزول من عينيّ، خاصة حينما مرّت أغنية كان من كلماتها: «مين يقدر يوصف أحلام... كان عايش يحلمها سنين».
ما أجمل هذا اليوم الذي حلمنا به طويلاً! إنه انتصارنا الصغير على الحقد والطائفية والعنصرية وتقسيم الأوطان. هل ندّعي كثيراً أنه بالنسبة إلينا يشبه أيام الانتصار، في لبنان أو في غزة؟

أما غزة، فهي قصة أخرى طويلة لن تنتهي، وفصولها أعيشها كل يوم.

  • بريشة الفنان عماد اشتيه

    بريشة الفنان عماد اشتيه

0 تعليق

التعليقات