لم تشهد الحرب السورية معركة مفصلية تُشبه في ظروفها ومكانها وزمانها ما يحصل في حلب اليوم. مشهد عاصمة الشمال يُشبه في الشكل وضعية العاصمة دمشق قبل 4 سنوات من ناحيتين: سلسلة الغزوات التي شنّت ابتداءً من تموز 2012 وأنهاها الجيش السوري بتطويق الغوطة في نيسان 2013؛ محاولة المعارضة في تشرين الثاني 2013 فك الطوق عن الغوطة الشرقية، رغم تحقيقها خرقاً كبيراً، لكنه انتهى بفشل ذريع بتدمير قوتها الهجومية في المنطقة.معظم المعارك ما بين «فتح العاصمة» إلى «فتح حلب» اليوم كانت في إطار الكر والفر أو الخسارة التي يمكن تعويضها، حيث لا وزن أو بعداً استراتيجياً حقيقياً يشابه «العاصمتين» (خسارة تدمر ثم تحريرها ـ سقوط معظم محافظة إدلب ـ تحرير الجيش غالبية ريف اللاذقية الشمالي ــ تعزيز خاصرة دمشق جنوباً خلال معارك «مثلث الموت»).
ما بين الموقعتين في السنوات الأربع اختلاف في حجم التدخلات الخارجية في سوريا: دول انكفأت وأخرى برزت وحلّ الثنائي الأميركي ــ الروسي ليفرض إيقاعه على مسار الأزمة دولياً. في هذا الإطار جاءت معركة حلب لتكون فيصلاً في الزمان والمكان، بعد 4 سنوات ونيّف من عمر الحرب في عاصمة الشمال حيث تتنافس مشاريع التقسيم والفدرلة والمناطقة الآمنة، وفي المكان الذي يحضر كل مشارك في الحرب من فصائل ودول.
«طوق حلب» الذي نجح في إطباقه الجيش السوري وحلفاؤه أجهز على معظم هذه المشاريع: من قوات محاصَرة «خَلَقت» خط إمداد من طريق اثريا ــ خناصر ــ السفيرة بسبب سيطرة المعارضة على الطريق الرئيسي، إلى قوات محاصِرة للأحياء الخاضعة لسيطرة المسلحين داخل المدينة، وعازلة للريف الشمالي (بعد فك الحصار عن نبل والزهراء).
ردّ الفعل كان منتظراً وبالحجم الذي جاء به ومن المكان المتوقع. كانت المصادر العليمة في الميدان تؤكد عند كل محاولة فاشلة للمسلحين في إحداث خرق من ناحية مزارع الملاح وطريق الكاستيلّو أنّ العين على جنوب المدينة، وأنّ الخطر قادم من الريفين الجنوبي والغربي بإمداد من «خزان» إدلب. ظهر البيان «رقم واحد» يوم الأحد معلناً انطلاق معركة «فك الحصار عن حلب».
ماكينة إعلامية ضخمة على مواقع التواصل تغذّت منها قنوات عربية وخليجية

آلاف المسلحين و«الانغماسيين» كانوا على الموعد. «حركة أحرار الشام» ذات الوزن النوعي التي آثرت الابتعاد عن معركة «الكاستيلو» لأنها «انتحار عسكري»، حضرت أيضاً. «الحزب الإسلامي التركستاني» أرسل نخبة من مقاتليه، ليقف «القاعديّ» (سابقاً؟) كتفاً بكتف إلى جانب «الفرقة 13» (المدربة أميركياً وصاحبة الاشتباكات سابقاً ضد «النصرة» في ريف إدلب) و20 تنظيماً آخر في معركة بدت كأنها «الفرصة الأخيرة» لوصل طوق النجاة نحو حلب.
4 أيام متواصلة ضخّت فيها المعارضة على تلاوينها خيرة مقاتليها وكل ما تملك من عتاد وخُبرات، إلى جانب ماكينة إعلامية ضخمة على مواقع التواصل الاجتماعي تغذّت منها قنوات عربية وخليجية وغربية لتعيد إنتاج أخبار التنسيقيات وبياناتها بطريقتها على الشاشات.
كل الظروف كانت مؤمنة لتكرار سيناريو إدلب (آذار 2015) بمفاعيل أشدّ وقعاً، لكن في الطرف المقابل كان القرار واضحاً بحماية إنجاز «الطوق» وتثبيته ثم توسيع رقعة الأمان لتمتد إلى الريف القريب بالتوازي مع العمل على عقد مصالحات داخل الأحياء الشرقية، ومد جسور «العفو» عن السوريين منهم.
في الميدان، ورغم التهويل الإعلامي المرافق لـ«ملحمة حلب الكبرة»، ورفع قادة المسلحين من سقف أهدافهم (قال القاضي العام لـ«جيش الفتح» السعودي عبد الله المحيسني إنّ «المجاهدين سيرفعون رايات النصر فوق قلعة حلب)، قلبت الساعات الـ24 الأخيرة المشهد لمصلحة الجيش.
فبعد 3 أيام من الموجات الهجومية الكثيفة ــ كان أخطرها ليل الثلاثاء إلى صباح الأربعاء ــ لم تحقق «الملحمة» أيّاً من أهدافها الرئيسية. لم يُكسر الطوق ولم يُقطع طريق الراموسة الذي وصلوا إلى تخومه.
سريعاً رمّم الجيش والحلفاء الثُّغَر بدءاً من الريف القريب وصولاً إلى جنوب المدينة، ليجد المهاجمون أنفسهم في مواضع دفاعية على محاور عدة، في ظلّ وصول تعزيزات إضافية لقوات الجيش وامتصاص جزء كبير من زخم القوة المهاجمة بعد خسارتها لعدد كبير من القادة والعناصر.
فاقت الخسائر توقعاتهم بعد نعي رسمي لزهاء 250 قتيلاً إلى جانب مئات الجرحى. «حفلة التبشير بالنصر» استحالت خلال ساعات ليل أمس إلى أدبيات من نوع آخر. عبد الله المحيسني انشغل برسالة صوتية من 11 دقيقة في مسألة «خداع (غرفة عمليات) الموك للفصائل» في الجنوب السوري، كما كان تخوين «جند الأقصى» سيد «التغريدات»... لينتقل المتابع من تأكيدات فصائل تبشّر بعشرة آلاف مقاتل مجهزين من أكثر من 20 فصيلاً «سيزلزلون حلب» إلى متسائلين عن غياب «الجند»، ومكيلين الاتهامات لقائده أبي ذر «الداعشي والقاعد عن الجهاد».
بعيداً عن التهويل الإعلامي وارتداداته، كان الجيش يستعيد في الساعات الـ24 الماضية تلة المحروقات، وتلة الحويز جنوب حلب، كذلك عزّز نقاطه في «مشروع 1070» شقة سكنية، وكلية المدفعية ومحيط الراموسة وطريقها، لنكون أمام فشل ذريع لكل «الأساطير» المكتوبة في «الملحمة الكبرى».
الأجواء السلبية عادت للظهور عند الشيخ السعودي، ليغرّد على حسابه في «تويتر» في محاولة لتمييع المستجدات الميدانية: «أخطأتم لم يبدأ الهجوم بعد... وانتظروا هجوماً شرساً من محور لم يخطر على بالكم».
مصدر محسوب على «جبهة فتح الشام» اعتبر أنّ «المعركة طويلة وبحاجة إلى الصبر»، مضيفاً في حديثه إلى «الأخبار» أنّ «المرحلة لم تنتهِ بعد، والقادم أدهى وأمرّ». مصدر آخر في «فيلق الشام» أشار إلى أن «المراحل الأخرى من الملحمة (حلب الكبرى) في مسار الإعداد لها».
لكن ما بات محسوماً حتى الأمس، أن الضجّة الإعلامية والميدانية قد اختلفت، وبدأ صوتها يخفت. على المقلب الآخر، كانت الإشارة واضحة من مصدر في «محور المقاومة»: «كسر طوق حلب ممنوع».