قبل سنواتٍ خلت، كنتُ لا أزال حدثاً في عالم الصحافة، وكان الأسير المحرر نبيه عواضة خارجاً للتوّ من الأسر. طلبت مني الجريدة التي أعمل فيها لقاءً مع الرجل. كان عواضة الأسير اللبناني الأصغر الذي دخل سجون الاحتلال. كان "الشبل" (هذا لقبه آنذاك، لكونه دخل صغيراً إلى المعتقل) قد أصبح شاباً قوي الشكيمة صلباً. حدثني وقتها طويلاً عن الأسر، وعن الحركة الأسيرة، وعن أنَّ أغنية فيروز "يا جبل البعيد" كانت نوعاً من التضميد لجراحه. حكى المقاوم الشجاع قصصاً كثيرةً عن ليالي الصبر والصمود الطويلة في زنازين الاحتلال المعتمة، وكذلك أخبرني مطولاً عن كثيرٍ من المقاومين ضمن تلك الحركة الأسيرة. في نفس الوقت تقريباً، كان بسّام القنطار شقيق عميد الأسرى اللبنانيين في سجون الاحتلال – الشهيد لاحقاً ــ سمير القنطار صديقاً قريباً، وكنا نناضل معاً لأجل حريّة شقيقه، لذلك كانت قضيةُ الأسرى نوعاً من الخبز اليومي بالنسبة إليّ. كانت صورهم تعلّق على دفاتري في الجامعة، على مكتبي الصغير في الجريدة، على أي تفصيلٍ يومي في حياتي، كنت أتابع ذكرياتهم. أسأل عن الصور التي يأخذونها ولماذا يجلسون بهذه الطريقة، ولماذا يرتدون ثيابهم ويقصون شعرهم بهذه الطريقة، ولماذا وكيف، وهكذا. أكثر من هذا، كان الملصق الشهير الذي صنعناه بأيدينا وبأموالٍ قليلة للمطالبة بحرية الأسير – المحرر في ما بعد ــ أنور ياسين لا يزال معلّقاً حتى اليوم على جدار غرفتي في منزل أهلي حيث كنت أسكن. وحين تحققت حريتهم، أصبح هؤلاء الأسرى جزءاً من الأصدقاء الذين آنَس إلى قصصهم وحكاياتهم، حتى إن أحد الأسرى المحررين سألني غير مرّة: هل أنت أسيرٌ محرر؟ وحينما أجيب بالسلب، يهزّ رأسه غير مصدّق: أنت تعرف الكثير أظنك كنت هناك. ولا تزال حتى اليوم ذكرى تحرير الأسير عفيف حمّود ذكرى أحتفل بها سنوياً معه ومع عائلته، حتى ولو شغلت عنه ولم أره خلال مدّةٍ طويلة. كل هذه المقدمة ربما كانت كي أشرح علاقتي الخاصة بالحالة الأسيرة عموماً، وللحديث في شأن الأسير البطل "بلال كايد".
يخوض الرفيق كايد، وهو الذي أنهى سنوات اعتقاله بعد اتهامٍ من قوى الاحتلال بانتمائه إلى كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، الجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (التي يقبع أمينها العام هو الآخر خلف القضبان لاتهامه بمسؤوليته عن عملية تصفية الوزير الصهيوني المقبور رحبعام زئيفي). كايد، الذي أعاده الصهاينة إلى السجن، لكن بتصنيفٍ آخر: السجن الإداري. ولمن لا يعرف ما معنى كلمة "سجنٍ" إداري، فهي أقرب إلى السجن "الاحترازي"، أي بمعنى أن الصهيوني يعرف أنك لم تقم بأي خطأ أو جريمة، ولكنه يعتقد أنك ستفعل ذلك "لاحقاً" أو "مستقبلاً". طبعاً كيف يعرف ذلك؟ لا أحد يعلم، هل ستقوم أنت بشيء، لا أحد يعلم، والأهم: هل ستخرج من سجنك؟ لا أحد يعلم. باختصار هو عبارةٌ عن "سجنٍ" لا قرار ولا قعر له. فهو دون أي مسوّغ قانوني، يعني بإمكان القاضي الصهيوني "الجلاد" أن يجدده لك كل ستة أشهر، أو 3 سنوات، أو حتى 5 سنوات إذا ما أراد ذلك. طبعاً، هنا نقطتان شديدتا الأهمية: الأولى أنَّ ما حصل مع كايد يمكن حصوله مع جميع الأسرى الذين أتموا فترات "حكمهم" القانوني (بحسب القانون العبري الجائر). إذاً، يمكن الصهاينة أن يبقوا هؤلاء الأسرى إلى أجلٍ غير مسمّى وتحت ذمة "الاعتقال الإداري" إلى الأبد ودون أن يحرّك أحدٌ في العالم ساكناً. ولأن الأسير في النهاية لا يمتلك إلا "جسده" وروحه كي يقاتل بها، كان من الطبيعي أن تكون أولى وسائل المقاومة لديه هي المقاومة "السلبية" (وإن كان التعبير لا يفي الأمر حقه)، أي بمعنى أن يلجأ إلى رفض التعاون مع الاحتلال حتى في الأمور اليومية والحياتية، بمعنى أن يرفض تناول طعام المحتل مهما كان.
يرفض الأسير طعام سجّانه رفضاً قاطعاً، لأنه لم يعد سجيناً. لذلك، إن بلال كايد يقاوم المخرز بعينه، يقاوم جلاديه بجسده، وقد لا يحتمل جسده ذلك، لكن على الأقل يكون قد فعّل "أثر المقاومة" ولم يتوقف عنها حتى تحقيق مراده: حريته. هذه المقاومة "المفعمة" بالشجاعة المطلقة يستمر بها كايد على نهج أسرى أبطالٍ وصل بعضهم إلى حدود الموت، نذكر منهم ــ لا حصراً ــ الأسرى الأبطال: سامر العيساوي (الذي لا يزال معتقلاً هو الآخر دون أسبابٍ مقنعة)، الأسير المحرر الشيخ خضر عدنان ذو الحالة المشابهة لحالة كايد، والذي اعتقل إدارياً فصام عن الطعام لفترات طوال أجبرت المحتل على إطلاقه. في النهاية، هي حرب إرادات، وصاحب الإرادة الأقوى سينتصر في النهاية. فالنصر كما الشهادة بالنسبة إليهم: طريقٌ مختارٌ جميل.