"أنعم" الله علينا في فلسطين باتفاق أوسلو، الذي أنتج سلطة حكم ذاتي تيسّر لنا طباعة شهادات الميلاد والهويات الشخصية، بدلا من الحكم المدني الإسرائيلي. أليست هذه رحمة؟ كان علينا أن نصبر خمس سنوات فقط لتنتهي أهم مراحل الاتفاق ويغدو لنا دولة، لكن بطريقة ما صارت السنوات الخمس.. عشرين سنة. والعشرون اثنتين وعشرين، وهلمّ جرّا!خلال كل تلك السنوات، وبما أن "الوضع مؤقت"، لم يصبح لدينا بنك مركزي أو سلطة نقد حقيقية، ينتج أي منهما عملة محلية. بقينا ملاحقين بملحق آخر لأوسلو هو بروتوكول باريس الاقتصادي. ملحقٌ علّقنا من عرقوبنا بالاحتلال، وإحدى تبعاته أننا ألزمنا أوراق النقد التي نتبادلها في معاملاتنا اليومية.
حتى شهادات الميلاد والهويات الشخصية، وكتحصيل حاصل جوازات السفر، ظلت مرهونة بيد الإسرائيلي، الذي لا بد أن يوقّعها ويضيف تهجئته العبريّة لأسمائنا كي يذكرنا بأننا تحت ظله القاتم، وأنه لا يمكن انتاج عماد مغنية آخر في فلسطين، لأنك منذ لحظة ولادتك، كل تفاصيلك ولون عينيك وشعرك مسجّل عند إسرائيل!
في يوم من الأيام، قرر بعض المتضايقين من الوجوه الإسرائيلية التاريخية بين أيديهم وفي جيوبهم، أن ينتفضوا بطريقتهم، فشرعوا يكتبون "فلسطين حرة"/"Free Palestine"، على النقود الصادرة من "بنك إسرائيل". حملة مضايقة الاحتلال تلك انتهت بتهديد البنوك الفلسطينية التي تعتمد هذه العملة في تداولاتها، بأنه لن تستقبل أي ورقة لدى "بنك إسرائيل" كتب عليها "فلسطين حرة"، لتنتهي "مقاومة العملة" في أقل من شهر، ويعود الأمر الواقع واقعا على رؤوسنا.
برغم ذلك، لم يتركنا الإسرائيلي نضرب أخماسا بأسداس، بل تكرم علينا وقرر تبديل شكل عملته بطريقتين: الأولى استبدال الصور الموضوعة لـ"القادة المؤسسين لإسرائيل" من رؤساء ورؤساء وزراء ميتين، بصور شعراء وأدباء إسرائيليين مع تغيير لون العملات إلى الأخضر وتدرّجاته غالبا، وقيل آنذاك أن السبب هو "مراعاة" الشعور الفلسطيني الغاضب، ولكن البديل كان أسوأ مما قبله: محاولة لترسيخ الجذور الصهيونية في فلسطين بالقول إننا هنا أصيلون مثلكم.
الطريقة الثانية أنه سعى إلى استبدال الورق العادي بورق أقرب إلى النايلون، لأن غياب السيطرة الاحتلالية على كل مناطق فلسطين خلق موجات من التزوير مثّلت عبر قاعدة سخرية القدر، سببا لغضب إسرائيل وعجزها عن مواجهة "مقاومة" من نوع آخر، إلا بحل جذري.
برغم أوسلو، وبرغم كل ضجيج السلطة، بقيت لدينا سلطة نقد محلية تراقب عمل البنوك، فيما لديها مهمات شكلية أخرى. وبما أن السلطة ورموز مشروعها لم يصدقوا معنا في أمور كثيرة، فإن عذرهم أقبح من ذنبهم في قضية جبرنا على التعامل بعملة إسرائيلية. صحيح أن الموضوع مرتبط بتغير جذري وحالة استقلال كلية عن إسرائيل، ولكن التغيير الشكلي (عملة فلسطينية الاسم والشكل) لن يثقل كاهلنا أكثر مما هو مثقل الآن بـ"كذبات وطنية" تتراكم منذ أربعين سنة وأكثر.
كلنا نذكر من صدّع رؤوسنا بالمقاومة السلمية. أليس مطلب تغيير العملة دون إلغاء أوسلو أو اتفاق باريس مقاومة سلمية؟ إذا لم يكن مشروع تحرير ولا مشروع حكم ذاتي أو دولة مؤقتة أو حتى كذبة كذبناها على أنفسنا ونصدقها، فما هي إذاً؟