لغط كبير دائر حول حجم التغيير ومستواه، ومساره في الموقف التركي من الساحة السورية. يكثر التحليل والتعليق واستشراف المآلات، إلّا أنّ كثرة التحليل تحمل في طياتها، آمال مصقولة بأشكال تحليلية، أكثر من كونها استشرافاً لمستقبل موقف تركيا وأهدافه الفعلية.نعم، يوجد تغيير في موقف أنقرة، وهو تغيير لم يأت نتيجة لما يُسمّى محاولة الانقلاب الفاشلة، ولا للانقلاب الفعلي الذي أعقب المحاولة. يمكن رصد بدء التغيير في تركيا قبل أشهر، وربما أكثر من ذلك، بعد أن تلمّس النظام هناك أنّ الساحة السورية تحوّلت من فرصة للتوسع وفرض الهيمنة الإقليمية، إلى ساحة منازلة لا أفق لها نتيجة صمود سوريا وحلفائها فيها، ومن ثم في مرحلة لاحقة، تحوّلت سوريا إلى مصدر تهديد للأمن القومي التركي. استتبع ذلك موقفين تركيين: انتهى الأول بفشل، والثاني ما زال في بداياته.
الموقف الأول جاء بعد التدخل العسكري الروسي المباشر، وكان معانداً ومتعنّتاً ومجبولاً بقراءات وآمال خاطئة. في حينه، لم يكن الموقف التركي بعيداً عن الموقف الأميركي، إلا أنه جاء أكثر فظاظة وعدائية، وكان مبنياً على الأمل الذي بان لأنقرة أنه يقين آتٍ، بإمكان إغراق روسيا في المستنقع السوري، ومن ثم إخراجها مهزومة فيه، الأمر الذي يتيح للاتراك مع حلفهم القائم مع الأميركيين و«الاعتدال» العربي، استئناف مهمة السيطرة على سوريا.
ما يحدث لتركيا هو نتيجة أفعالها ومخططاتها
وسوء تقديرها

مُني هذا الموقف بالفشل. إلا أنّ أنقرة واصلت تعنتها، وكان لسان حالها هو: إن لم يكن بالإمكان السيطرة على سوريا، فلتكن الساحة السورية ساحة منازلة لاستنزاف الحلف والمحور الآخر، من دون التأثير بالجهد الميداني وتعزيزه، في المواجهة العسكرية التي واصلت استعارها في سوريا. في موازاة ذلك، كانت تدور حرب من نوع آخر بين روسيا والولايات المتحدة، تسعى من خلالها موسكو إلى «إقناع» الأميركيين بدورها في سوريا، رغم أنها أثبتت نفسها في منع الخطط الأميركية لسوريا، أو عرقلتها.
واجه الأميركيون الروس بسياسة الاحتواء والمراوغة والاتفاقات المنقوصة وفي مواضع عديدة بالتجاهل والتسويف، وكان أحد أساليب مواجهة الروس والحدّ من تأثيره، عبر الموازنة مع حضورهم الميداني بحضور أميركي مباشر وغير مباشر في الأرض السورية، وذلك عبر تحريك وتعزيز الورقة الكردية وأتباعهم. وهو ما استتبع دق ناقوس الخطر لدى أنقرة التي لم يعد بإمكانها معاينة سوريا باعتبارها ساحة استنزاف لخصومها وأعدائها، بل ساحة تهديد، وربما أيضاً ساحة أخطار وشيكة وداهمة، فكان عليها التحرك لدرئها.
وإذا كان التهديد المتأتي عن الحضور العسكري الروسي يتعلق بإنهاء آمال التوسع والهيمنة التركية في سوريا، إلا أنّ التهديد المتأتي عن الحركة الأميركية تجاه الكرد يتعلق بالأمن القومي التركي. التهديد الأول انتهى، مع تكيّف أنقرة بأن آمال الهيمنة لم تعد قائمة، أما التهديد الثاني فلا إمكان للتكيّف معه، وهو تهديد من شأنه أن يتحوّل إلى خطر في الداخل التركي نفسه. المعنى أنّ التهديد الحالي الماثل أمام تركيا هو تهديد الحليف الأميركي، لا الخصم أو العدو الروسي أو السوري أو الإيراني، مع المفارقة بأنّه حليف يتعذر الانفكاك عنه.
ما يبدو للبعض تغييراً في الموقف التركي، هو نتاج وردّ فعل لمواجهة التهديدات المتأتية عن الاستراتيجية الأميركية في سوريا ومساعيها في تعزيز موقع الكرد وموقفهم فيها. وما يراه البعض تحوّلاً وإعادة تموضع تركيين باتجاه المحور أو الحلف الروسي ــ السوري ــ الإيراني، هو محاولة ضغط تركية موجّهة إلى واشنطن، وإلا فلا معنى للحراك التركي الجديد من الأساس. «البضاعة» المطلوبة من قبل تركيا، وهي تهديد الكرد، غير موجودة في جعبة الروس أو الرئيس بشار الأسد أو إيران، وهي موجودة بالكامل، لدى الأميركيين.
من هنا، إن الحراك التركي وإظهار التغيير وتظهير أشكال من الانزياح باتجاه المحور الآخر، هو رسالة ضغط باتجاه الحليف الاستراتيجي الأميركي الذي تدرك أنقرة أنها غير قابلة وغير قادرة على الانفكاك عنه. من هنا يأتي تأكيد رئيس الوزراء بن علي يلدريم، أن علاقات بلاده مع أميركا في وضع «متوسط»، وأن واشنطن تكيل بمكيالين في ما يتعلق بمحاربة الإرهاب، في موازاة تأكيده أيضاً أن «الولايات المتحدة شريك استراتيجي لتركيا وليست عدواً». في الوقت نفسه، ولسوء حظ الأتراك، تدرك واشنطن أن ما تقوم به أنقرة هو محاولة ضغط، قد تكون مزعجة، لكن مستوى ومدى ازعاجها لا يصل إلى حدّ التأثير في قراراتها وتوجهاتها، كما يبدو حتى الآن.
أين سينتهي الكباش التركي الأميركي؟ الإجابة مرتبطة بمدى الضغط الذي يمكن أنقرة أن تقوم به لمواجهة الأميركيين، ومدى تجاوب واشنطن مع الضغوط، مع الإدراك المسبق أن خيارات أنقرة مقلصة، وإن زادت عن حدها فستكون خيارات انتحارية في مواجهة الأميركيين... وكيفما اتفق. ما يحدث لتركيا الآن، هو نتيجة لأفعالها وآمالها ومخططاتها وسوء تقديرها المزمن وعنادها تجاه الساحة السورية. ما يحدث لها هو نتيجة عادلة، إذ من الظلم أن يتملص النظام التركي من أفعاله بعد تخريب دولة وتدفيع شعبها أثماناً باهظة، ومن ثم الخروج سالماً من مغامرة الهيمنة الإقليمية، بلا أثمان مقابلة.