يدعوني إلى الحديث هنا ما حملته لي الريح من بيروت إلى لندن مطلع آذار الماضي مع شخصٍ لم يقاسمني خبز الأيام التي تعرفتُ فيها إلى الطيب صالح، أو إلى مصطفى سعيد، حين كان يرسمُ ملامح أناسٍ أعرفهم على وجوه آخرين لا أعرفهم في هذا البلد. والآن، على الرغم من أنني نهرتُ نفسي عن السعي إلى فتح أبواب الزمان الموصدةِ خلفي، وأما أنني لا أودُ أن أنتظر عند أي بابٍ يبدو أمامي، فإن الريح الخفيفة القادمة من بيروت حملت ما يبعث في خاطري رغبةً لا تنطفئ في استعادة خبز الأيام المبلل بمطر هذه البلاد. لا لآكله إنما لأقتسمه من جديد، ولأعيد إلى خاطري لحناً لم أحسن عزفه في تلك الأيام.
يستعيدُ زماني ذلك الرجل الذي أتى من قريته الصغيرة عند منحنى النيل، ليحملني على كتفيه ويصعد بي نحو سماءٍ ملأها بقصصٍ عن هذه البلادِ التي منحتني عتمةً لفت جسدي طوال ست سنوات.
أمام المحكمة الجنائية المركزية، الأولد بيلي، هنا وقف مصطفى سعيد متبرماً بكل ما يحمل في قلبه من بأسٍ، وبكل ما يحمل في عينيه من عزمٍ على العودة متقهقراً من غزوته التي قاتل فيها طواحين الهواء. كان لا يزال يسمعُ صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ أرض القدس. وكان يسمع الغزاة وهم يقولون إنهم أنشأوا المدارس في بلادنا والسكك الحديدية والبُنى التحتية، ولا يشيرون بأي طريقةٍ إلى أن القوافل والبواخر التي كانت تشقُ الصحارى والأنهار لم تكن تحملُ الخبز بل المدافع، وأن القطارات لم تكن تجري فيها إلا سيولُ الغُزاة. كان ينظرُ لكل الذين اجتمعوا لوضع حبل المشنقة حول رقبته أو تحريره منها ويقول "إنني جئتكم غازياً في عُقر داركم" وأن عُطيل لم يكُن إلا أكذوبة.
لم يكُن في ذلك المكان أحدٌ ينظرُ إليه مصطفى سعيد بعينِ الحاجةِ إلا مسز روبينسون، لم يجد صدراً يسندُ إليه رأسه إلا صدرها، ولم يجد يدين تربتان على كتفه إلا يديها. تلك المرأة التي لم يبدُ طفلاً إلا في عينيها. حتى أمه التي لم يذرف ولو دمعةً واحدةً عند فراقهما أو عند موتها لم تكن تراه طفلاً عندما تركها وهو في الثانية عشرة من عمره، قالت له "افعل ما تشاء، سافر أو ابقَ، انتَ وشأنك، إنها حياتك وأنتَ حرٌ فيها". كان ذلك آخر ما قالته له، حزم أمتعته وركب القطار، لم يُلوِّح أحدٌ بيديه، ولم تنهمر دموعُهُ لفراق أحد. لم يذكر كلماتها هذه إلا مرةً واحدةً بعد سنواتٍ طويلة، يوم زواجه من جين موريس، تذكر أمه وبكى حتى لم يعدُ يظنُ أنه باستطاعته التوقف عن البكاء.
كان مصطفى سعيد مُتجرداً في حديثه عن الناس والأماكن، لم يكن يرى في أمه إلا شخصاً سار معه شطراً من الطريق ثم فارقه، ولم يكن يرى في المدن التي غذت صباه إلا جبالاً يضربُ خيمته عندها وقتاً، ثم يقلع الأوتاد ويسرج بعيره ويرحل. وكم كان هذا يُقلُبُ النار التي تشتعلُ في قلبي المشغول برسم صورٍ لم يعد سبيلٌ لرسمها بضوء العينين.
لعل تجردُه هذا هو ما منحه القدرة على أن يتنقل بخفةٍ بين الأزمنة والأماكن، لعل ذلك ما كان يمنحه قدرته البديعة على الكذب. كان حسن وتشارلز ومصطفى وريتشارد. كانت تقفزُ الأكاذيبُ عن لسانه كأنها معانٍ سامية، يستدرجُ بها أولئك الذين يحنون إلى شرقٍ ساحر وصحارى قاسية، مثل آن هامند الفتاة الربيعية التي اصطادها في محاضرةٍ ألقاها في أكسفورد عن أبي نواس، تلا فيها شعره، وأطلق عنه الأكاذيب الساحرة، حتى صارت آن هامند جاريته سوسن التي سافرت عبر القرون لتلتقيه في أكسفورد وتذكره بدارهم عند ضفة نهر دجلة أيام المأمون. كما عاد بإيزابلا سيمور إلى لحظة لقاء الجنود العرب إسبانيا ليغرس بيرقه في أندلسها الخصب.
كان مهووساً، لا يعرفُ الحب، وطفلاً يجهل الكراهية، ينتقمُ من التاريخ بكذبه ووسامته وعبقريته. حتى صار الصيادُ فريسة حين مزَّقت جين موريس كل أكاذيبه وصارت، بعد كل الجبال التي نصب أوتاده عندها، ساحل هلاكه الذي يجري اليه دون تردد، يغريه شفقُ المغيب فيسبحُ نحوه دون أن يعرف إن كان الشفقُ دماً أم حِنَّاءَ في قدمها. "لم تكن تلك كراهية، كانت حباً يعجزُ التعبير عن نفسه".
وهناك في بطن النيل، لم يعرف مصطفى سعيد أي العملين أكثر أنانية، بقاؤه أم رحيله. لكنه كان دائماً يتمنى أن يكبرُ ولداه دون أن تصيبهما عدوى الرحيل. لا نعرف إن كانت تلك هي النهاية التي اختارها لنفسه أو النهاية التي أصابته وهو يطاردُ نفسه هذه المرة.
لم تكن موسم الهجرة إلى الشمال روايةً عابرةً في تلك السنة، كانت موسماً يستدعي صوراً لم تغِب وحكاياتٍ عرفت أصولها ولم تدرك بعدُ فروعها. وصارت الآن رسالةً تثق بعنوانها وتُترجمُ معانيها.
"سأحيا، لأن ثمة أناساً قليلين أحبُ أن أبقى معهم أطول وقتٍ ممكن، ولأن علي واجبات يجبُ أن أؤديها، لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى. وإن كنتُ لا أستطيع أن أغفر فسأحاولُ أن أنسى، سأحيا بالقوة والمكر" ولأنه دائماً ثمة روايةٌ يجبُ ‘تمامُها وثمة كثيرٌ لم نَعِشه، وثمة عشقٌ لم نلتقِ به بعد.