حينما كانت المواطنة الفلسطينية أم عامر، تحمل حقيبة فيها شقاء عمرها بيدها قبل الهرب من «برج الظافر» المهدد بالقصف، وسط غزة، نهرها زوجها بالقول: «لا تحملي شي، رح يقصفو هالشقة (شقة واحدة) ونرجع». لكن المفاجأة الإسرائيلية، في الأيام الأخيرة من حرب الواحد والخمسين يوماً، خالفت توقعات أبو عامر، فقد انهال البرج كله (23 آب 2014)، معلناً بداية مرحلة جديدة سمّاها الفلسطينيون «كسر العظم»، تشبيهاً لما كان الجنود الإسرائيليون يفعلونه في الانتفاضة الأولى، حينما يكسرون أيدي الشباب والفتية الذين يلقون الحجارة بأعقاب بنادقهم.بعد سنتين من الحرب، يبدو أن «الظافر 4» خلّد اسمه، ليس في ذاكرة أصحابه فحسب، بل في العقل الجمعي لسكان غزة. كان هو البرج السكني الأول الذي دشنت إسرائيل بتدميره نهاية الحرب، وفتحت صفحة جديدة من صفحات «دفع الثمن»، أمام العشرات من كاميرات الصحافة، التي نقلت على شاشات التلفزة كيف استحالت طبقاته الأربع عشرة إلى ركام.
ثبتت المقاومة في المقابل معادلة تهجير المستوطنات بكثافة الهاون

يستذكر أبو عامر مجريات ما حدث بالتفصيل. فرغم تدمير إسرائيل أحياءً بأكملها، لم يتوقع الرجل الخمسيني أن تجهز على أبراج سكنية. كان يظن أن الاستهداف لشقة واحدة تعود إلى أحد النواب. وحاله مثل البقية، لم يستطيعوا فقط سوى حمل حقيبة صغيرة فيها أوراقهم الثبوتية وما لديهم من ذهب ومال.
الليلة نفسها كانت الأطول على الغزيين، الذين شهدت مدينتهم تغييراً جغرافيا ظاهراً، فقد أجهز القصف على برجيْ «مجمع الإيطالي» و«الباشا»، لتجد أكثر من 120 أسرة نفسها بلا مأوى خلال دقائق فقط.
الأسلوب نفسه كان قد تكرر في مدينة الشيخ زايد، شمال غزة. الحاج ماجد أبو نادي (50 عاماً) أجهزت طائرات «الإف ــ 16» على برج رقم 67 الذي كان يسكن فيه. البداية كانت من صاروخ طائرة استطلاع ضرب مدخل البرج وأنذر سكانه بالخروج، حاملين ثيابهم التي تسترهم فقط، لأن أحداً لم يتوقع أن ينهار المبنى كله بعدما ألقت الطائرة ثلاث قنابل كبيرة.
مشاهد الأبراج المدمرة أعادت إلى الذاكرة صور الضاحية الجنوبية في بيروت، التي طبّق العدو فيها استراتيجية «عقيدة الضاحية»، لذلك كانت إعادة تطبيقها في غزة إنذاراً إسرائيلياً للضغط باتجاه وقف الحرب بعدما سجّل العدو لنفسه مجموعة من الإنجازات الميدانية رغم إخفاقه في وقف إطلاق الصواريخ والحدّ من الأنفاق الهجومية. لكن الغزيين يتخوفون كثيراً من أن تكون شكل أي حرب مقبلة بالطريقة نفسها، خاصة أن غزة لم تشهد منذ زمن انتعاشاً اقتصادياً يساعدها على بناء مثل هذه المباني.
لم تكن هذه الأزمة غائبة عن قيادة المقاومة. يقول القيادي في «حركة الجهاد الإسلامي» جميل يوسف، إن الحركة كانت تدرك أن «الاحتلال سعى إلى خلق معادلة جديدة تكون ضاغطة على المقاومة، باستهداف التجمعات السكانية وتهجير أهلها، فانتقل إلى شريحة اجتماعية أخرى هي سكان الأبراج، هم الخط الأخير في التجمعات السكانية وفق البيئة الغزية».
لكن يوسف لا يرى أن قصف هذه الأبراج كان «عاملاً حاسماً في الوصول إلى نهاية الحرب، مع أنها سرعت في ذلك، لأن المفاوض الفلسطيني في القاهرة أدرك أن ضريبة استمرار الحرب صارت عالية جداً، وقد وصلت المعركة إلى آخر نقطة كان يمكن أن تصل إليها، خاصة أن كل طرف كان يحاول أن يسجل نقاطاً له، كي يعلن أمام جمهوره أنه منتصر».
في المقابل، يرى الخبير الأمني والاستراتيجي إبراهيم حبيب، أن ضرب الأبراج السكنية سبّب حالة صدمة وإرباك لجبهة المقاومة الداخلية، موضحاً أن هذه الأبراج كانت «الحاضنة الآمنة للنازحين من الأحياء التي تدور فيها المواجهة البرية... عملياً، كل برج يقصف يعادل قصف 60 منزلاً تسكنها 60 عائلة، وهذا ما وضع الحسابات على المحك، وكان من الواجب اتخاذ قرارات لإيقاف الحرب... لو استمرت إسرائيل في هذا النهج لدخل قطاع غزة في مرحلة تاريخية فاصلة ومشكلة كبيرة».
بعيداً عن الرأيين، وبعد موجة اغتيالات طاولت رؤوساً مهمة في المقاومة، وعقب صعوبة التوصل سياسياً إلى أفضل مما كان بسبب الخلافات الداخلية والدور المصري الضعيف، كانت القراءة الفلسطينية أن ضرب الأبراج السكنية إعلان إسرائيلي لمرحلة جديدة، أو إنهاء حرب هي الأطوال في تاريخ حروب العدو خلال السنوات العشر الأخيرة.
مقابل ذلك، ردت المقاومة بتكثيف القصف على «مستوطنات غلاف غزة» عبر الهاون لتثبت معادلة جديدة، خاصة أن الاستخدام المكثف للهاون بتلك الطريقة وللمرة الأولى، أدى إلى تهجير آلاف المستوطنين عن حدود القطاع.