الكل في انتظار «الصفقة» حول سوريا، أمّا الميدان فلا ينتظر أحداً. وبينما يحظى الضجيج السياسي بالصدارة، ترتسم في الشمال السوري مربّعات سيطرة تأخذ شكل «كانتونات» متجاورة بتبعيّات مختلفة. ويبدو المشهد الميداني في الشمال فريداً وغريباً. فبينما تتبادل «الكانتونات» المتجاورة عداءً شرساً، يعكف «رعاتُها» الدوليّون والإقليميون على ترميم علاقاتهم وتحالفاتهم بهدوء من دون الكف عن مدّ الكيانات المتناحرة بكلّ ما من شأنه تأجيج الصراع وإطالة أمده.في المشهد السياسي تحضر الأنباء المتتالية عن الاجتماعات الأميركيّة الروسيّة المكثّفة، وتُشكّل قمة مجموعة العشرين المنعقدة في مدينة هانغشتون الصينيّة مسرحاً مناسباً لعقد لقاءات ثنائيّة عدّة بين الزعماء، يحجز فيها الشأن السوري مقعداً متقدّماً، فيما تُسجّل طهران غياباً لافتاً عن أحاديث التسويات والصفقات الطافية على السطح، مقابل حضور فاعل في الميدان، لا سيّما على جبهات حلب التي شهدت أمس تطوّراً مهمّاً تمثّل في عودة «الطوق» إلى الخدمة. ويصعب تصوّر اكتمال أي اتفاق حول سوريا من دون رضى إيراني، حتى ولو كانت موسكو لاعباً أساسيّاً في إنجازه. وعلى نحو مماثل، يبدو مستبعداً أن تنخرط أنقرة في أي صفقة من دون «مُباركة» أميركيّة (ولو كانت غير مُعلنة).
ورغم كل ما أثيرَ عن خلافات تركيّة أميركيّة، ينبغي التسليم ببديهيّات تفرض نفسها، على رأسها أنّ الغزو العسكري التركي للأراضي السوريّة ما كان ليستمرّ في غياب موافقة أميركيّة. ومن المرجّح أن الاختلافات في الرؤى بين الحليفين محصورةٌ في تفاصيل جانبيّة (بعضها مؤثّر) ولكنّها لا ترقى إلى درجة الخلافات الكبرى في ما يتعلّق بالأهداف العامّة. وثمّة تفصيل بارز يفرض نفسه في هذا السياق، حيث أعلنت الولايات المتحدة أخيراً أنّ قواتها «قصفت أهدافاً لتنظيم "داعش" بواسطة راجمات صواريخ متنقلة (هيمارس) نشرتها حديثاً على الأراضي التركية». ويجدر التذكير بأن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، كان قد «بشّر» عبر حوار تلفزيوني أجراه مع قناة «هابير تورك» في نيسان الماضي بأنّ «نشر منظومة هيمارس سيكون (حين حدوثه) خطوة لفرض منطقة آمنة في سوريا». ومن شأن هذا التفصيل أن يغني عن كثير من التحليلات والتكهنات بشأن مصير وتطورات «التحالف الاستراتيجي» بين البلدين. وحتى الآن، «أثمر» هذا التحالف تكريس تقسيمات في الشمال السوري تبدو كفيلة بوضعه أمام مستقبل غامضٍ مفتوح على كل الاحتمالات. فبعد «التمدد الكردي» غرب الفرات في مرحلة سابقة، جاء الغزو التركي ليعيد رسم المنطقة بما يتناسب والمخاوف التركيّة من «الخطر الكردي».
تؤكد معلومات «الأخبار» أنّ «قسد» تستعد لخطوة ستؤثر في الموازين

وخلافاً لما أُشيع مع بدايات الغزو من أنّه «عمليّة سريعة»، بدأت القوّات التركيّة أمس «مرحلة جديدة من عمليّة درع الفرات»، عبر إرسال مزيد من التعزيزات التي سيطرت بسهولة على قرية الراعي الحدوديّة. وأتاح دخول «القوات التركية الخاصة» طرد تنظيم «داعش» جنوباً نحو الباب (ريف حلب الشرقي)، كذلك منح أنقرة تجسيداً واقعيّاً لحلم الـ«90 كيلومتراً» بين جرابلس وأعزاز. وأيّاً كانت التسمية التي ستحظى بها هذه المساحة («منطقة آمنة» أو سواها) فالثابت أنّ الأتراك قد نجحوا في فرض أمر واقع عبر خلق «كانتون» يُنتظر أن يشهد إحلالاً سريعاً لمجموعات هي عبارة عن أدوات تركيّة «مفحوصة أميركيّاً». ويتوسّط «الكانتون» التركي «كانتونان» كرديان، يمتدّ أوّلهما من عين ديوار (ريف الحسكة الشمالي الشرقي) حتى عين العرب (كوباني، ريف حلب الشمالي)، ويتموضع ثانيهما في منطقة عفرين (ريف حلب الشمالي).
ولا يبدو الأكراد في وارد «الاستكانة» لهذه المستجدّات، رغم أنّ أي محاولة منهم لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء ستكون محكومةً بالفشل ما لم تحظَ بضوء أميركي أخضر. وتؤكّد معلومات حصلت عليها «الأخبار» أنّ «قوات سوريا الديموقراطيّة تستعد للإعلان عن خطوة جديدة خلال اليومين المقبلين، ستكون مؤثّرةً في موازين القوى في الشمال». وبدت لافتة تأكيدات مصادر «مجلس جرابلس العسكري» أمس أنّ «المجلس تلقّى دعماً فرنسيّاً جديداً» تضمّن «134 سيّارة مزوّدة برشاشات دوشكا».

من يبدأ السباق نحو الباب؟

علاوة على الاحتمالات القائمة لاشتعال «حرب» حقيقيّة بين الأذرع التركيّة المُنتشية بانتصارات الشريط الحدودي وبين نظيرتها الأميركيّة («قسد»)، يبرز «السباق نحو الباب» بوصفه مؤشّراً مرجّحاً لموازين القوى في الشمال في المرحلة المقبلة. وتتساوى المسافة بين الراعي والباب من جهة، وبين منبج والباب من جهة أخرى (20 كيلومتراً). وفي ظل غياب أي معطيات تؤشر على نيات لدى الجيش السوري لفتح جبهة الباب (ريف حلب الشرقي، خاضعة لسيطرة «داعش») في المدى المنظور، تبرز طموحاتٌ متزايدة لفتح هذه الجبهة لدى كل من «قسد» (التي تسيطر من خلال حلفائها على منبج) والمجموعات المدعومة تركيّاً التي دخلت إلى الراعي أخيراً. ومن المؤكّد أن الكلمة العليا في هذا الإطار أميركيّة بامتياز، فمن دون غطاء جوي فاعل توفّره «قوات التحالف» سيتعذّر على أيّ من الطرفين خوض المعركة.

سيناريو المعارضة

أحيت التطوّرات آمال المعارضة السوريّة بشقّها «السياسي» في ترجمة «التقدّم العسكري للفصائل» عبر تحويل «الكانتون» إلى «مقرّ لحكومة مؤقتّة». وحصلت «الأخبار» على معلومات متقاطعة عبر مصادر عدّة تفيد بأنّ «أوساط الائتلاف المعارض منهمكة في الاستعداد لدخول حكومة مؤقتة إلى المنطقة الآمنة». وتفيد المعلومات بأنّ هذه الخطوة «جزء من سيناريو الحل السياسي كما وُعد به الائتلاف». ويتضمّن السيناريو «اعترافاً بالحكومة المؤقتة بصيغة مخفّفة، وتمكينها من إدارة المنطقة بالتوافق مع الفصائل المسلّحة المنتشرة فيها». وتطرح هذه «الصيغة» تساؤلات حول دور «الهيئة العليا للتفاوض» المحسوبة على الرياض في المرحلة المقبلة. ومن المعروف أنّ الرياض وأنقرة تتقاسمان رعاية «أبرز» كتلتين معارضتين مكرّستين في الوقت الراهن (الهيئة والائتلاف). ورغم «التنسيق» الذي يُحكى عنه بين الكتلتين، غيرَ أنّ سباقاً غير معلنٍ ما زال قائماً بينهما، في انعكاس للتسابق التركي السعودي على النفوذ بصورتيه السياسية والعسكرية، مع أفضلية تركيّة واضحة (حتى الآن).