«سليخاه أني شوبيتت»، جاء الاعتذار حاسماً، مساهماً مع الهواء الرطب على كورنيش عكا الغربي في تعكير مزاجي. لم ألحظ أنها إسرائيلية، ربما لأن مظهرها لم يكن يوحي بذلك، لكنني تنبهت في آخر الأمر إلى أن الكتاب الذي بين يديها هو سفر توراتي. مع ذلك، طلبت منها التقاط صورة لي، لكنها اعتذرت كونها «في السبت» ولا يمكنها أن تكبس زر الكاميرا، لأنه «الله استراح في السابع»، وهي عليها أن تفعل المثل.«استراحة السابع»، هذه ليست موجودة في قاموس الناس داخل أزقة عكا العتيقة والبلدات الفلسطينية الباقية. في ذلك الصباح، وعلى غرار الأيام، بدأت رائحة البطاطا المقلية والحمص المسلوق والفلافل بالانتشار. أمّا الأحياء اليهودية، فميتة تقريباً، وحركة المرور في الشوارع خفيفة. حتى الأطباء في المستشفيات يلتزمون «الوضع الراهن»، والعاملون هناك عرب فقط، وربما بعض الإسرائيليين العلمانيين. المصاعد أيضاً موقوتة، فتتوقف عند كل الطوابق أوتوماتيكياً حتى لا يكبس أحدهم الزر وينتهك بذلك حرمة السبت!
هكذا يبدو مظهر الحياة الحريدية من الخارج، وخصوصاً أن الأخيرة منغلقة وتمنع على «الأغيار» معرفة ما يحدث فيها. وقبل شهرين تقريباً، انتحرت امرأة يهودية في قصة تشبه هرب نساء من قبضة تنظيم «داعش». المنتحرة هي إستي فاينشطاين، إحدى الناجيات من «غرق حسيدي غور»، والأخيرة طائفة يهودية هي الأكثر تطرفاً في إسرائيل. وفي أوتوبيوغرافيا بعنوان «يفعل كما يشاء»، وزعت فاينشطاين معاناتها الزوجية على 227 صفحة، فضحت فيها حياة «الحسيدوت» التي لم تكن معروفة لإسرائيليين مفاخرين بكون «دولتهم واحة للديموقراطية، وحقوق الإنسان».
قبل ثماني سنوات، ارتدّت فاينشطاين (أم لسبع بنات)، عن دينها، معلنة قطيعة نهائية مع مجتمعها الحريدي. إحدى بناتها سارت على خطاها، فيما الست الباقيات قررن البقاء في «الحسيدوت»، ما سبّب لها أزمة نفسية اضطرتها للمكوث في دورة تأهيل وعلاج طويلة الأمد، ثم انضمامها إلى جمعية تقدم عوناً للمرتدين. أخيراً، بعدما وجدت كل الأبواب موصدة في وجهها قررت الموت.
استهلاك هائل لأدوية أمراض نفسية تؤخذ بسبب قمع الرغبة الجنسية

مع انتحارها نُشر الكتاب الذي ألفته، كاشفاً عن القوانين الدينية، والرقابة الصارمة على العلاقات الجنسية حتى بين الزوجين الشرعيين. فبعد زواج فاينشطاين في الثامنة عشرة، بشابٍ مثلها (حسيدي غور)، تمنت أن تسمعه ينطق باسمها. تقول: «كنت أسير خلفه في المنزل، أحيانا، كالظلّ وأتخيّل كيف سيلتفت فجأة ويقول هذه الكلمة العجيبة». لكنه، كما تتابع في كتابها كان يناديها: «أنتِ إذهبي، أنت إفعلي..»، ففي «حسيدية غور»، ممنوع على الزوج مناداة زوجته باسمها، بل ممنوعٌ على الزوجين ممارسة علاقة لأكثر من مرتين في الشهر! ووفق فاينشطاين، طلبت من زوجها ممارسة الجنس لأكثر من ذلك، وعندما سأل الزوج، الحاخام، أتته إجابة سلبية، فقال لزوجته: «إن لم يعجبك الأمر فسأنام في غرفة الصالون، أو حتى خارج المنزل».
ووفق هذه الشريعة، على الزوجين التعامل مع بعضهما بعضا عن بعد لأسبوعين كل شهر، ولا يسمح للرجل بإعطاء زوجته أغراضا عبر النقل من يد إلى يد مباشرة، كما لا يجلسان على المقعد نفسه، إضافة إلى أنه يمنع أي ملامسة بين الزوجين، ويجب قضاء مدة طويلة من التعفف الجنسي بعد كل ولادة. هذه القوانين ليست مكتوبة في وثيقة رسمية، بل يهمس بها «المرشد» في أذني الزوجين عندما يعقد قرانهما، ويبقى يوجههما خلال المدة الأولى من الزواج. واذا علم بوجود «خرق» للأنظمة، فإنه «يرشدهما إلى الصواب». وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، يمنع منعاً باتاً ممارسة الجنس، وخلال الحيض ممنوع على المرأة النظر في عيني زوجها ومن المفضل، وفق الشريعة اليهودية، أن تتجنبه نهائياً، كما يمنع أن تتزين له وتثير لديه شهوة لأمور «حرام»! انتحار فاينشطاين جاء بعد ادعاءات خطيرة ظهرت ضدّ «الحسيدوت» في السنوات الأخيرة، أبرزها المعطيات التي تحدثت عن استهلاك هائل للأدوية المعدة للأمراض النفسية الخطيرة، التي تؤخذ لقمع الرغبة الجنسية عند الأشخاص الذين لا يستطيعون التزام «الزهد والتعفف الجنسي».
حياة الحريديم الزوجية تشبه، في وصف فاينشطاين، قضاء الخدمة العسكرية (من حيث الانضباط والتزام القواعد)، وقواعدها لا تختلف كثيراً عن الأنظمة المتبعة في المجتمع الحريدي ككل، حيث يتبع نظام الفصل بين الجنسين (في جميع الأعمار) في المدارس والمناسبات العائلية، كما يمنع على الإناث مصادقة الذكور، أو العكس. حتى العطل السنوية، تقضيها الطائفة داخل أماكن مخصصة لها، توزع عادة في الصيف إلى أربعة شواطئ مخصصة للنساء فقط أو الرجال فقط (خشية من التعرض لمشاهد غير محتشمة).
ومع أن عدد الحريديم سيناهز المليون نسمة في إسرائيل وفق إحصاءات رسمية، فإن كثيرين منهم لا يدلون بأصواتهم في الانتخابات (من منطلق ديني)، علماً أن هناك أحزاباً حريدية مشاركة في الكنيست في إطار محاولاتها للتأثير في هوية إسرائيل، إضافة إلى أن غالبية الحريديم لا يؤدون الخدمة العسكرية الإلزامية، لأن الحاخامات يلزمونهم قضاء وقت طويل في دراسة الشريعة. والحاخامات هم المرجعية العليا في كل تفاصيل الحياة، ليس في إصدار الفتاوى والتشريعات فحسب، وهو ما يظهر ــ مثلا ــ في فصل التعليم الحريدي عن الرسمي. وفي الأول، يكون تأثير وزارة التربية والتعليم في صياغة المناهج هامشيا.
ولأن الرجال الحريديم يتفرغون لدراسة التوارة والشريعة، فإن كسب الرزق مهمة ملقاة على عاتق المرأة، التي أظهرت الإحصاءات الرسمية في إسرائيل أن معدل النساء العاملات في المجتمع الحريدي بلغ 70%. برغم ذلك، لا تزال ممنوعة من قيادة السيارة، وهو ما كشفته اخيراً صحيفة «هآرتس»، التي تحدثت عن فصل مُدرِّسة حريدية من عملها بسبب حصولها على رخصة قيادة تستطيع بها نقل ابنها (من ذوي الاحتياجات الخاصة) إلى مدرسته. وفي رد مديرة المدرسة جاء: «لن نسمح لامرأة تقود سيارة بأن تدرس تلميذاتنا».