قبل ساعات من إعلان اتفاق الهدنة بين وزيري الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف ليل الجمعة الماضي، استبقت إسرائيل المرحلة السياسية والميدانية الجديدة في سوريا، بدفعها الجماعات المسلّحة المرتبطة بها في الجنوب، إلى بدء عملية عسكرية على مواقع الجيش السوري في القطاع الشمالي من محافظة القنيطرة.ويوم أمس، دخل الاشتباك السوري ــ الإسرائيلي مستوىً غير مسبوق من التصعيد، إذ استهدفت وسائط الدفاع الجوي السوري طائرتين إسرائيليتين معاديتين (طائرة استطلاع وطائرة مقاتلة) نحو الساعة الواحدة فجراً، بعد أن اعتدتا على مرابض مدفعية للجيش في موقع «تل الشحم» جنوب بلدة سعسع، بغية تخفيف الضغط عن إرهابيي «تنظيم القاعدة في بلاد الشام ــ جبهة النصرة» أو «جبهة فتح الشام»، التي تقود هجوم المسلّحين على مواقع الجيش.
هي ليست المرّة الأولى التي يقوم فيها العدوّ الإسرائيلي باستهدافات مدفعية وجويّة لمواقع الجيش في القنيطرة، بالتزامن مع شنّ المسلحين هجمات على مواقع الجيش بذريعة سقوط قذائف داخل الجولان المحتل مصدرها الجيش، فضلاً عن غارات على مواقع أخرى قرب مطار دمشق، بحجّة وقف شحنات أسلحة «كاسرة للتوازن» من سوريا للمقاومة اللبنانية. وسُجّل خلال الأسبوعين الأخيرين أكثر من خمسة استهدافات لمواقع الجيش في محيط بلدتي خان أرنبة ومدينة البعث، بيد أن الردّ السوري الأخير يأتي في لحظة مفصلية، حيث دخل اتفاق الهدنة حيّز التنفيذ، مع ما يعنيه الأمر من رفع للغطاء عن «جبهة النصرة»، البدن الأساسي العسكري لفصائل المعارضة السورية المسلّحة، وما يسمّى «جيشَ الفتح».

إسقاط الطائرتين والنفي الإسرائيلي

حسم الجيش السوري في بيان رسمي صباح أمس، إسقاطه طائرة حربية إسرائيلية وطائرة من دون طيار غرب سعسع، مؤكّداً اعتداء طائرات العدو على موقع عسكري سوري في القنيطرة. وفيما أكّد رئيس فرع الإعلام بالإدارة السياسية في الجيش السوري العميد سمير سليمان أن «الطائرة المستهدفة من نوع أف. 16»، نفى المتحدّث باسم جيش العدو الإسرائيلي سقوط أيٍّ من الطائرات الإسرائيلية. لكن مصادر عسكرية سورية قالت لـ«الأخبار» إن «طائرة استطلاع من نوع (skylark) كانت تحلّق فوق مواقع سعسع، وأُسقطت في منطقة قريبة من البلدة، بعد استهدافها بصاروخ مضاد للطائرات من منظومات في جنوب دمشق»، فيما أكّدت أن «الطائرة الحربية سقطت في المنطقة الواقعة بين بلدتي بير عجم وبريقة جنوب القنيطرة، وهي مناطق خاضعة لسيطرة النصرة». وأكّدت مصادر ميدانية أخرى لـ«الأخبار» أن «الطائرة الحربية كانت تحلّق في الأجواء السورية فوق القنيطرة حين انفجر قربها صاروخ دفاع جوي من نوع (s200) انطلق من مواقع شمال محافظة السويداء، وأحدث أضراراً كبيرة في الطائرة قبل أن تسقط جنوب القنيطرة».

فشل ذريع للمسلّحين

على الأرض، لم يكن التحضير الذي قامت به المجموعات المسلّحة لمعركتي «قادسية الجنوب» و«مجاهدون حتى النصر»، على مستوى نتائج الأيام الماضية، في ظلّ الفشل الذريع الذي أصيبت به منذ فجر يوم الجمعة، من دون تحقيق أي تقدّم لافت ضد مواقع الجيش. فتحضيرات للهجوم على السريّة الرابعة التابعة للواء 90 في جنوب بلدة حضر، وبعدها على مدينة البعث وخان أرنبة، وفي الوقت نفسه الهجوم على تل قرين في «مثلّث الموت» أو مثلّث ريف دمشق ــ درعا ــ القنيطرة، بدأت بحسب معلومات الاستخبارات السورية ومصادر في المقاومة اللبنانية قبل نحو شهرين. ورُصد للهجوم الذي تقوده «النصرة» بمشاركة «أحرار الشام» وأكثر من 17 فصيلاً تابعاً لما يسمى «الجبهة الجنوبية في الجيش السوري الحر» إمكانات عسكرية ضخمة من الذخائر والآليات والانغماسيين والعربات المفخّخة. وبحسب المعلومات، فإن غرفة «الموك» أدخلت عدداً من شاحنات البرادات المحمّلة بالذخائر عبر معبر تل شهاب خلال المرحلة الماضية، في إطار عمليات «النصرة» وحلفائها ضدّ «جيش خالد بن الوليد» المبايع لـ«داعش» في منطقة حوض اليرموك، وفي إطار قتال الجيش السوري في القنيطرة. وأكّدت المصادر لـ«الأخبار» أن «جبهة النصرة قبل شهر ونصف شهر أفرغت واحداً من أكبر مستودعاتها في بلدة نصيب الحدودية ونقلت الذخائر والأسلحة تحضيراً للمعركة».
طائرة استطلاع من
نوع skylark أُسقطت فوق سعسع

بعد أربعة أيام من القتال الضاري، ومحاولات الهجوم على السرية الرابعة وتلال الحمرية جنوب بلدة حضر ومواقع الجيش في «تل بزاق» و«تل قرين» ومساعدة طيران ومدفعية العدو الإسرائيلي واستقدام مؤازرات من الريف الشرقي والغربي لدرعا، فشل المسلّحون في تحقيق أي هدفٍ من أهداف المعركة المعلنة. فالسرية الرابعة، التي في حال سيطرة المسلّحين عليها، تفتح الطريق أمام المسلّحين من الحدود الأردنية وحتى بلدة بيت جن في جبل الشيخ، لم تسقط، واستطاع الجيش الحدّ من اندفاعة المسلّحين على تلال الحمرية، ومن المتوقّع أن يستعيدها كاملةً في الساعات المقبلة. وبلغت خسائر المسلّحين بحسب مصادر عسكرية وأهلية أكثر من 40 قتيلاً، و80 جريحاً معظمهم من أبناء بلدات درعا والقنيطرة، أُدخل معظمهم إلى المشافي الإسرائيلية في الجولان المحتل وشمال فلسطين، برّاً عبر نقطة الـ«105» التابعة لجيش العدو الإسرائيلي قرب بلدة مسعدة في الجولان. أما على جبهة «مثلث الموت»، فقد فشل المسلّحون بإحداث ثغرة في الخطوط الدفاعية للقوات السورية، إذ فشلت عربة مفخخة في إختراق ساتر «تل قرين»، وتمكّن الجيش بعد تفجير العربة من تدمير ثلاث دبابات خلفها، كان من المفترض أن تتقدّم داخل الساتر، فيما بقيت جثث أكثر من 32 مسلّحاً قرب الساتر، من دون أن تتمكن المجموعات المسلحة من سحبها.
وأحدثت الخسائر الكبيرة لدى المسلّحين غضباً لدى الأهالي، خصوصاً أنها ليست المرّة الأولى التي يتكبّد فيها المسلحون خسائر بشرية كبيرة على هذه الجبهة.

«لا» لمنطقة نفوذ إسرائيلية

لم يكن هجوم الجماعات المسلّحة المدعومة من الطيران والمدفعية الإسرائيلية مفاجئاً بالنسبة إلى القوات السورية، إذ سبق لها أن حدّدت موعداً للمعركتين في القنيطرة و«مثلّث الموت» أكثر من مرّة، وحصل التأجيل مراراً. مصادر سورية معنية بالجبهة الجنوبية أكّدت لـ«الأخبار» أن «قرار الخوض في المعركة هذه المرّة هو قرار سياسي إسرائيلي. إسرائيل تبحث عن دور في ظل اتفاق الهدنة، وتحاول أن تشكّل غطاءً ميدانياً لجبهة النصرة بعد انحسار الغطاء الأميركي عنها». ويقول المصدر إن «الردّ السوري على الطيران الإسرائيلي يشكّل رسالة واضحة بأن سوريا لن تقبل احتضاناً إسرائيلياً للنصرة يمهّد لمنطقة نفوذ إسرائيلي في الجنوب السوري».
مصادر سورية أخرى ربطت بين التدخل الإسرائيلي الأخير، والسعي إلى تشكيل «منطقة عازلة» في الجنوب تحكمها جماعات مرتبطة بإسرائيل، على غرار الحزام الأمني الإسرائيلي في جنوب لبنان الذي أداره «جيش لبنان الجنوبي» أو «جيش لحد» طوال فترة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب. وقالت المصادر إن «إسرائيل أيضاً تريد حجز مكانٍ لها في عملية (مكافحة تنظيم داعش) من سيناء إلى الجنوب السوري». وأشارت إلى ما يحكى عن عملية أميركية ــ أردنية بمساعدة «الجيش الحر» لإنهاء «داعش» في حوض اليرموك على الحدود الأردنية وحدود الجولان المحتلّ، لافتةً إلى أن «إسرائيل تحاول أن تفرض نفسها شريكاً في أي عملية عسكرية ضدّ داعش، تحضيراً لمرحلة ما بعد التنظيم قرب حدود الجولان».