ما يميز الأداء السياسي والإعلامي الإسرائيلي بشأن الحديث عن مصير الانتفاضة الفلسطينية الشعبية، خلال الأشهر الماضية، أنهم كانوا أكثر حذرا في التعبير عن أمانيهم وتقديراتهم، تفاديا لتكرار خيبات الأمل التي تلقوها في المراحل السابقة إزاء تقديراتهم بنجاح الأجهزة الأمنية للعدو في قمع الانتفاضة، التي لا تلبث أن تنبعث من جديد. لم يقتصر هذا التقدير المتفائل في ذلك الوقت على شريحة الخبراء أو السياسيين فقط، بل صدر أيضا على لسان رئيس أركان الجيش نفسه، غادي ايزنكوت، الذي أكد في الثالث والعشرين من أيار الماضي أننا «كبحنا موجة الإرهاب»، وفق ما ورد في صحيفة «معاريف»،مع ذلك، ينبغي تأكيد حقيقة أن الانتفاضة الفلسطينية تجدد نفسها بنفسها، برغم محاولات تطويقها من الأمن إلى السياسة فالإعلام. وأكد تجددها للمؤسسة الإسرائيلية، بكل عناوينها الاستخبارية والعسكرية والسياسية، أنها باتت حقيقة ثابتة من يوميات الاحتلال، الذي لم يعد بوسعه الثقة بفعالية إجراءاته حتى لو مضت أيام، أو أسابيع، لم تنفذ خلالها أي عملية.
في غضون ذلك، تجب مراقبة ما سوف تقوله الآن شخصيات «شطحت» في التعبير عن تقديراتها وآمالها، عندما أعربت عن تصورها بأن الانتفاضة الفلسطينية انتهت، وخاصة رئيس بلدية الاحتلال في القدس، نير بركات، الذي لم تمض سوى بضعة أيام على تفاخره بقمع الانتفاضة وإعادة الهدوء... لكن، منذ «ثرثرته» التي أدلى بها خلال لقائه مع ناشطي «الليكود»، نُفذت ثماني عمليات ومحاولات تنفيذ. وكان بركات قد شرح مطولا لأولئك كيف أدى الدمج بين «العقاب الجماعي» بواسطة الحواجز، والعقاب الإداري بواسطة الغرامات وتشديد الرقابة البلدية على العائلات التي يشتبه في أولادها بخرق النظام أو «الإرهاب»، إلى تحقيق الهدوء، مضيفا: «جلسنا معا، مع الشاباك والشرطة وطورنا نماذج غير قائمة في أي مكان آخر».
لا «عصا» وزير الأمن أرعبت الفلسطينيين ولا «جزرته» أغرت أحداً

أيضا، من أهم ما يميز هذه الموجة من العمليات، خلال الأيام الثلاثة الماضية، أنها تشكل ضربة قاسية لإستراتيجية «العصا والجزرة» التي طرحها وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، في ظل أنه يتعامل مع الانتفاضة كأنها تحدّ مصيري لمستقبله السياسي، كونها تمثّل اختبارا لكل شعاراته وخياراته. وكان ليبرمان يوجه انتقاداته اللاذعة إلى حكومة نتنياهو، عندما كان في المعارضة، متهما إياها في ذلك الوقت بالضعف في تعاملها مع الانتفاضة، لكن، من أهم الرسائل التي يبدو أنها ستُحفر في الوعي العام الإسرائيلي، أن تولي شخصية متطرفة حقيبة الأمن، لم يُرعب الشعب الفلسطيني أو يثنيه عن خيار الانتفاضة، فلا «عصاه» أرعبت الشباب الفلسطينيين، ولا «جزرته» أغرت أحداً.
مع ذلك، يبدو أن فقدان الثقة بفعالية الإجراءات الأمنية والقمعية تسلل أيضا إلى الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، التي لم تفاجأ بالموجة الجديدة من العمليات، بل توقعت حدوث موجة من الهجمات ما بين نهاية عيد الأضحى، والأعياد اليهودية، في الأسابيع المقبلة، كما ذكرت صحيفة «هآرتس». ولفتت الصحيفة إلى أن سمات العمليات في هذه المرحلة متشابهة جدا مع ما سبق، وخاصة أنها تأتي تباعا، أي يشجع تنفيذ كل عملية شخصا آخر على تنفيذ أخرى.
وفي تعبير عن المأزق الذي تواجهه المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حول سبل مواجهة الانتفاضة، بعدما تعددت مراحل التصعيد، أكدت «هآرتس» أن «موجة العمليات» الأخيرة لن يكون بالإمكان صدها بالوسائل التي استخدمت في السابق، مثل التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، أو مراقبة شبكات التواصل الاجتماعي؛ فقد سارعت قوات الاحتلال والشرطة في أعقاب العمليات الأخيرة إلى تعزيز انتشار قواتها.
في المقابل، تعمل أجهزة الشرطة وسائر قوات العدو على تنمية كفاءة أفرادها في مواجهة هذا النمط الجديد من الانتفاضة، على قاعدة «استخلاص العبر» من مئات العمليات السابقة التي وثقت غالبيتها كاميرات المراقبة. كما شملت الاستعدادات لمواجهة العمليات في المرحلة الراهنة: تحصين مواقع نشر قوات الاحتلال، ونشر شبكات كاميرات مراقبة في أماكن عدة. كذلك اعتمدت سلطات العدو سياسة العقاب الجماعي على تجار القدس المحتلة في أعقاب العمليات الأخيرة، وبرر قائد الشرطة في القدس، يورام هليفي، هذه الخطوة بالقول إنه من غير المعقول أن تسير الحياة باعتيادية في القدس كأنّ شيئا لم يحدث!
ويجدر التشديد على حقيقة أن الانتفاضة الفلسطينية، بما تملكه من إمكانات وما تتركه من آثار وتداعيات على الواقع الإسرائيلي، غير قادرة حتى الآن على إحداث تغيير جذري في المجريات السياسية، ولم تبلغ مرحلة التحوّل إلى عبء أمني ثقيل يضع الاحتلال الإسرائيلي للضفة أمام منعطف اتخاذ قرار مفصلي؛ ويعود ذلك، بالدرجة الأولى إلى عملية التطويق التي يعانبها الشعب الفلسطيني والهادفة إلى الحؤول دون الإمكانات العسكرية، كما كان يجري مع قطاع غزة، وهي إمكانات تمكنه من المقاومة والدفاع عن نفسه، ومن تصعيد وتزخيم انتفاضته وتطويرها إلى ما يوصلها إلى المرحلة المؤمَّلة.