لا يزال المشهد في قضية سد النهضة الإثيوبي ومشكلات نهر النيل أسوأ مما تحاول عبارات الثناء والإطراء بين المسؤولين الرسميين أمام الكاميرات إظهاره؛ بينما تواصل القاهرة تقديم التنازلات بصورة مفزعة من دون أي امتيازات، تتبين يوما بعد يوم حقيقة تراجع الدور المصري في القارة السمراء.وبرغم كل ما قدمته القاهرة إلى أديس أبابا لم تحصل سوى على وعد بالتزام تنفيذ توصيات لن تخرج للنور قبل 14 شهراً من مكاتب دراسية أجنبية، في وقت اقتربت فيه إثيوبيا، على أرض الواقع، من إنهاء السد، وتنفيذ أضخم بحيرة اصطناعية في أفريقيا تتسع لنحو 74 مليار متر مكعب من المياه، من أجل توليد ستة آلاف ميغا وات من الكهرباء.
اللقاءات المتكررة بين الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإثيوبي لم تؤدِّ إلى أي خطوات إيجابية فعلياً، وزيارات السيسي إلي أديس أبابا ــ لعقد مباحثات ثنائية أو للمشاركة في القمة الأفريقية ــ لم تنعكس إيجابياً على الموقف الصلب للجانب الإثيوبي، في الوقت الذي يتغير فيه الموقف السوداني من جلسة إلى أخرى، ما بين داعم للجانب المصري أو واقف على الحياد في المفاوضات التي تعثرت لمدد طويلة، حتى جرى توقيع عقد الاتفاق مع المكاتب الاستشارية الأسبوع الماضي.
جلّ ما ستفعله تلك المكاتب، بعد تأخير قارب العام، هو العمل لأكثر من سنة من أجل تحديد الآثار السلبية للسد على دولتي المصب، مصر والسودان، على أن تتقاسم الدول الثلاث تكاليف المكاتب الاستشارية التي جرى اختيارها بالتوافق، ثم تُتاح لهذه الدول أربعة شهور كي تدرس النتائج.
ضعف الموقف المصري قد يشجع دولا أخرى في الحوض على بناء سدود

وبدأ الإقرار المصري بالتنازل عن الحقوق التاريخية خلال توقيع اتفاقية المبادئ بيد عبد الفتاح السيسي مقابل وعد إثيوبي بعدم البدء في ملء بحيرة الخزان إلا بموافقة القاهرة والخرطوم، وهي الخطوة التي تشدد مصر على تأجيلها وتوزيعها على أكبر عدد من السنوات تجنباً لحدوث جفاف في النيل بسبب قلة المياه التي ستردها، ولا سيما مع نقص معدلات الأمطار بصورة ملحوظة العام الماضي.
إعلامياً في القاهرة، يعلن النظام رفض طلب إثيوبي بالبدء في تخزين المياه بصورة تجريبية في السد الذي يتوقع الانتهاء من بنائه العام المقبل، فيما لا شيء يضمن ذلك واقعا. وبسبب خطوات النظام المصري، منذ زمن حسني مبارك حتى اليوم، لا يملك رجاله الآن حلاً سوى التسويف. والملف الذي تتابعه رئاسة الجمهورية مباشرة، يعترف جميع المتابعين له بصعوبته ودخول البلاد مرحلة الخطر فيه، بعدما عدّلت إثيوبيا مقاييس السد وأسرعت في معدلات التنفيذ خلال السنوات التي أعقبت ثورة 25 يناير، كما أنها زادت المعدلات الإنشائية مع توتر العلاقات خلال حكم «جماعة الإخوان المسلمون».
ومن علامات التنازل، أيضاً، عودة وزير الري المصري للمشاركة في اجتماعات وزراء دول حوض النيل برغم استمرار تعليق عضوية القاهرة على خلفية اتفاقية عنتيبي التي وقعتها ست دول، وهكذا استمر التراجع التدريجي عن الموقف السابق، فيما لا تكسب مصر سوى وعود ربما تكون غير قابلة للتنفيذ، وخاصة مع استحالة تنفيذ أي تعديلات على جسم السد بعد انتهاء الدراسات التي ستجريها المكاتب الفنية في ظل اكتمال عملية البناء إلى ذلك الوقت.
وإثيوبيا أصلاً لم توقف البناء انتظاراً للتعديلات الهندسية، كما أن كلفة إجراء التعديلات بعد الانتهاء من بناء السد ستكون باهظة، ولن تستطيع حكومة أديس أبابا تحملها، ما يعني أن مصر ستعيش فكرة الأمر الواقع. أيضا يقول خبراء المياه إن انهيار «النهضة» بعد تخزين المياه بسبب طبيعة التربة غير المستقرة في المنطقة التي بني عليها، سيناريو في حال حدوثه، سيؤدي إلى غرق مساحات شاسعة من السودان، إلى جانب فيضان في النيل لن تستطيع مصر تحمله.
والمشكلة أن الإخفاق متتالٍ مصرياً في إدارة ملف الأزمة، بداية من إدارة اللواء الراحل عمر سليمان الذي استخدم لغة القوة في الرد على أي تحرك لبناء السد، مرورا بتجاهله ما بعد «ثورة 25 يناير»، وصولاً إلى وفود «الدبلوماسية الشعبية» التي لم تحصد القاهرة منها سوى «الشو» الإعلامي. أما تدخل الكنيسة المصرية، فكان غير مؤثر في السياسيين الاثيوبيين، الذين استسهلو بإصدار تصريحات تؤكد عدم سعيهم للإضرار بمصالح مصر المائية.
حتى الآن، لم تضع وزارة الموارد المائية والري خطة بديلة للتعامل مع أزمة السد، وكل التركيز منصب على تعطيل بنائه من دون توفير بدائل أو أساساً خطة عملية للتعطيل. كذلك تدرس جهات قانونية إمكانية التصعيد أمام التحكيم الدولي في المستقبل القريب، علماً بأن المفاوض المصري لا يزال متمسكاً برفض بدء ملء بحيرة الخزان قبل الانتهاء من جميع الدراسات الفنية، وهي الورقة الأخيرة في يد القاهرة للحفاظ على حقوقها التاريخية في مياه النيل.
وتفتقد بوصلة النظام المصري أي رؤية ثانية لمعالجة الأزمة، فيما تكتفي بتغيير المسؤولين القائمين على الملف واستبدالهم بين حين وآخر امتصاصاً للغضب الشعبي في ظل تعقد المفاوضات، لكن الحقيقة أن البلاد تواجه شبح النقص الحقيقي في معدلات تدفق المياه، وخاصة مع ارتفاع درجات الحرارة في الصيف، وزيادة كمية المياه التي تتبخر بفعل عوامل الجو.
أما الزيادة التلقائية التي كانت تحصل عليها مصر من مياه النيل، بسبب غياب خزانات وسدود في دول منابع النحر، فقد تفقدها قريبا، وخاصة أن ضعف الموقف المصري والتعنت الاثيوبي سيشجعان بعض دول الحوض، وخاصة التي تملك رغبة في إقامة سدود لتوليد الكهرباء، لاتخاذ الخطوة نفسها مستقبلا، أي إن النهضة لن يكون آخر السدود في وجه المياه الواردة إلى المصريين.




تهديد «الأرزّ»!

رغم وجود مادة في قانون الري والصرف المصري، الصادر عام 1984، تحظر زراعة الأرز في غير الأماكن المخصص لها، فإن هذه المادة لم تفعّل بسبب توافر المياه بالقدر الذي يمكن الدولة من توفير احتياجاتها بصورة جيدة حالياً، علما بأن زراعة الأرز تستهلك كميات كبيرة من الماء.
مع ذلك، قالت الوزارة إنه لا بد أن يعى المواطن ضرورة ترشيد استهلاك المياه ووقف زراعات الأرز المخالفة، في ظل أنه مسموح بزرع مليون و200 ألف فدان من الأرز في مدن شمال الدلتا فقط. لكن إجمالي المساحة المزروعة بهذه المادة الأساسية وصل إلى الضعف بسبب ارتفاع العائد من تصديرها، مع أن الحكومة أوقفت التصدير واضطرت مؤخراً إلى فتح باب الاستيراد، وذلك للمرة الأولى منذ عشرين عاماً.
وينص القانون على توقيع غرامة مالية للمخالفين بالإضافة إلى وقف توزيع مستلزمات الإنتاج الزراعى عنه من أسمدة وبذور وقروض بنك التنمية والائتمان الزراعي، فضلا على رفع الدعم المقدم للكهرباء عنهم. ويبدو أن الحكومة تهدف من تغليظ العقوبة إى الحد من المخالفات في الموسم المقبل بسبب الاستهلاك الكبير للمياه.
وتستهلك مصر 40 ألف طن شهرياً من الأرز، فيما يستهلك زراعة الفدان الواحد منه تسعة آلاف متر مكعب من المياه، وهو الرقم الذي يكفي لزراعة ثلاثة أفدنة بأنواع أخرى. وقدرت الحكومة الكمية المستخدمة في الزراعات المخالفة بنحو 25% من حصة مصر في النيل.