يرشّ مهند العطر على رفاقه من العلبة المعدنية التي عثر عليها في حاوية القمامة. يتبادل وإياهم الضحكات ثم يغادر كلّ واحد منهم في جهة، بعضهم يحمل وروداً وعلب علكة يلاحقون بها المارة، وآخرون يجرّون أكياساً مليئة بالعبوات البلاستيكية التي يجمعونها من حاويات القمامة. يتذكّر مهند أن الفرح ليس مهنته، فيرمي علبة العطر في كيس على ظهره ويعود لممارسة «مهنته» التي تبقيه حياً، بعد موت أهله جراء سقوط قذيفة على منزلهم في حلب. ودون إظهار أي حزن، يتحدث عن موت عائلته وتشرده، كما لو أنه يروي قصة لا تعنيه: «ما عاد إلي حدا، نمت بالحدايق حتى شفت ناس عم تحط غراضها بشاحنة وجايين على اللاذقية طالعوني معهم». يتابع الصبي ذو السنوات الثماني: «هون صرت اشحد وبعدين صرت اجمع قراضة وبالليل بنام ع رصيف جنب حاجز للجيش مشان ما خاف». وبينما يتجاهل سؤالنا إن كان يرغب في الذهاب إلى دار الأيتام، يخبرنا رفيقه أن أحدهم كان قد أخذ مهند إلى هناك من قبل، لكنه هرب. رواية الهرب ــ التي رواها لرفاقه ــ تبين لاحقاً أنه ابتكرها ليظهر أمامهم كبطل، لكن الحقيقة هي أن الميتم رفض استقباله.وبدوره، محمد (13 سنة) الذي يجمع «القراضة» في الليل ويبيع العلكة نهاراً، له حكاية مع دار الأيتام، غير أنه كان أكثر حظاً من مهند، إذ أمضى عدة أشهر هناك قبل أن تقرر الإدارة إعادته إلى جدته. وتشرح الناشطة ألما عنتر، أن «والد محمد اعتقل في بداية الأحداث، وبقي في عهدة جدته التي أخذته إلى الميتم، لكنه أُخرج لأن وجوده يخالف النظام المتبع، لكون والديه على قيد الحياة، علاوة على أنه كان عنيفاً مع بقية الأولاد». وتضيف أنها حاولت أخذه إلى دار الأيتام، عارضة أن تتكفل بمصاريف دراسته وعلاجه النفسي، لكن مجلس الإدارة رفض استقباله، ما دفع محمد إلى الصراخ حينها: «انتو الكبار كذابين»، بعدما وعدته بأنه سيعيش هناك ويذهب إلى المدرسة، ليعود إلى «بيته»، رصيف بجانب حاجز أمني في واحد من أحياء اللاذقية.
تعهّدت أمام الأم قبل وفاتها بإخبار الطفل بنسَبِه حين يكبر

رئيس مجلس إدارة جمعية «المساعي الخيرية الإسلامية» فواز دالي، أشار في حديث لـ «الأخبار» إلى أن شروط قبول الأطفال في «الدار» التابعة للجمعية «لا تتناسب وظروف الحرب»، فعلاوة على شرط أن يكون الطفل سورياً ويتيم الأب أو الأم أو كليهما، وعمره بين 4-15 سنة، فإنّ قبوله يتطلب تعهداً خطياً من أحد أفراد عائلته بتسلّمه في سن 15 عاماً. ويوضح دالي أن «المشردين الذين يُحضَرون إلى الميتم ويعودون ثانية إلى الشارع، لم يهربوا أو يطردوا كما يشاع، بل لم يُقبَلوا لعدم وجود كفيل من عائلتهم يتعهد بكفالتهم حين يبلغون سن الخروج من الميتم»، مضيفاً أن «وضع الأطفال الذين استُشهد ذووهم في الحرب وباتوا مشردين، يشكّل معضلة، إذ لا يمكن قبولهم في الميتم، وفي الوقت ذاته هم معروفو النسب، فلا يمكن اعتبارهم لقطاء ليُستقبَلوا في دار لرعاية مجهولي النسب». ويلفت إلى أن الميتم تجاوز نظامه الداخلي الذي ينص على استقبال الأيتام من اللاذقية فقط، وبات يستقبلهم من جميع المحافظات، وبغض النظر عن ديانتهم، رغم أن الدار إسلامية.

منح النسب لليتيم

كانت عبير (24 عاماً) تتلمّس بطنها لتطمئن إلى ابنها، بينما تبحث بعينيها عن زوجها. كلّ ما تذكره أنهما كانا معاً في السوق، حين انفجر كل ما حولهما، لتصحو وتجد أنها مصابة بشظايا في الصدر، وتميّز بصعوبة من كلام الطبيب أنها في مشفى الرقة الوطني وزوجها استشهد، ويجب عليها اختيار نجاتها أو نجاة جنينها.
محمد نور، كان الاسم الذي كتبته عبير ــ بعدما اختارت إنقاذ حياته ــ على ورقة أعطتها لأم عبد الله التي تكفلت بتبني الطفل. الأخيرة التي لديها 5 بنات وصبي مصاب بنقص الأكسجة، تعهّدت أمام الأم قبل وفاتها وأمام الجهات الرسمية ــ حسب قولها ــ بإخبار الطفل بنسبه حين يكبر، ليكون له الحق في أن ينسب إلى عائلته إن شاء ذلك، كذلك أودعت مبلغ 300 ألف ليرة سورية باسمه في البنك، يحقّ له الاستفادة منه في سن 18 عاماً، علاوة على تسجيل ملكية أرض باسمه. وعند مواجهة الأم التي تصرّ على أن تتبنى الطفل عبر إجراءات قانونية، بأن التبني «غير قانوني» في سوريا، تصر على أن «التبني مسموح ما تعهدت العائلة بإخبار الطفل لاحقاً بنسبه».
من جانبه، أكد المحامي أنس الشامي، بطلان الادعاء الأخير، مشيراً إلى أن «معروفي النسب ممن لديهم قيود أسرية لا يمكن تبنيهم ومنحهم نسباً غير نسب عائلاتهم تحت أي مسمى، لكون التبني غير قانوني، وأي اعتراض من أحد أفراد عائلة الطفل الأصلية يسقط التبني»، مشيراً في الوقت نفسه إلى ازدياد الحالات خلال الحرب التي تعثر فيها عائلة على طفل مشرّد، فتقوم بتسجيله في السجلات المدنية كابن لها، رغم بطلانه قانونياً. ورأى الشامي أن «البلاد بأمسّ الحاجة اليوم لنظام كفالة تتعاون عليه الدولة والمجتمع المدني لإنقاذ الأيتام الذين شردتهم الحرب».