تطبيق نظرية داروين البقاء للأصلح (الأقوى) على السياسة، ينتج تحليلات تحمل رداءة وبلاهة أيضاً، وهي تفسّر تعامل مثقفين واعلاميين وحتى سياسيين، مع الولايات المتحدة ومصالحها على أنها قضاء وقدر: إن لم يحصل شيء فلأن أميركا لا تريده، وإلا فزعيمها ضعيف، أو أنها سمحت به، فيما لا يحتاج المرء الى بحث عميق لإكتشاف ان «التدافع والصراع» لازما كل التاريخ الانساني وأنهما قانون من قوانينه التي لا تنفك عنه.ويخطئ محللون عمداً أو جهلاً أو تجاهلاً لدى مقاربتهم موقف أميركا للساحة السورية، من زاوية ما تملكه من قدرات عسكرية، مقارنة بما لدى روسيا وحلفائها. الاكتفاء بتحديد مصلحة واشنطن لا يعني أنها ستتحقق ولا يعني تقرير الفعل الآتي ووجهته ونتيجته. بحسب هؤلاء، اخفاق واشنطن وفشلها قياساً بقدراتها وحسب، ضرب من الخيال.
إلا أن مقصد هذه المقالة، لا يرتبط حصراً بدراسة قدرة أميركا وظروفها وأهدافها، وكذلك إن كان اخفاقها وفشلها بفعل خاطئ منها كما يريد البعض أو نتيجة لصد الاخرين لها. مقصد المقالة يتجاوز ذلك للحديث أيضاً عن عناصر القوة في الموقف الروسي وحلفائه.
قيل الكثير عن أسباب ودوافع وإمكانات موسكو في تحركها العسكري المباشر في سوريا، سواء كانت حركة أريد لها أن تخدم الدفاع لصد تطويق موسكو والغرب لها، أو نتيجة لإرادة روسية لتوسيع نفوذها نحو العالم. وعناصر القوة، إضافة إلى القدرة العسكرية، تعود على نحو أساسي إلى الإرادة السياسية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ إلى القراءة المعمقة لأزمة أميركا ومحدودية القدرة لديها على تفعيل القوة العسكرية بعد التجربتين الفاشلتين في العراق وافغانستان؛ التكامل والتقاطع بين أطراف محور المقاومة وروسيا في مروحة واسعة من الأهداف؛ والموقع الجيوسياسي الاستراتيجي لسوريا من منظور محور المقاومة، وعلى رأسه إيران.
الواضح أنّ وجهة الرئيس الروسي، من خلال الدور العسكري المباشر في الساحة السورية، ينم عن توجه جدي لتعزيز المكانة والحضور على مستوى المنطقة والعالم. أي كانت الخلفيات والأهداف وقراءة الظروف التي رأت موسكو أنها فُتحت امامها للوصول إلى هذه النتيجة، إلا أنها اقترنت بصلابة سياسية وحزم للرئيس بوتين قياساً بالرؤساء الروس من قبله، في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي. ضمّ القرم والصراع في أوكرانيا وقبلها العملية العسكرية في جورجيا، وصولاً إلى التدخل العسكري المباشر في سوريا، تعكس التصميم على الحضور الروسي والإرادة السياسية الحازمة، وهما جزء لا يتجزأ من العوامل الاساسية التي دفعت الروس للتحرك ولمواصلة التحرك.
ساهم في ذلك اعتماد واشنطن سياسة الانكفاء عن التدخل العسكري المباشر، وهو انكفاء لم يأت نتيجة مزاج شخصي لباراك اوباما، بل نتيجة سياقات وأسباب دفعت واشنطن اليها كدولة دفعاً، وكانت أولى تجليات هذه الانعطافة في السنتين الأخيرتين من ولاية الرئيس الأميركي الاسبق جورج بوش. وهذا الانكفاء فسح المجال أكثر أمام تصميم وقدرة بوتين على التحرك لتحقيق ما حققه حتى الآن بمعية حلفائه، وعلى رأسه الإبقاء على هوية الدولة السورية بتحصين مكانة وموقف رئيسها، إضافة إلى ما هو مرتقب أن يحققه وحلفاءه من نتائج إضافية لاحقة.
وبعيداً عن قراءة ما جرى في مرحلة ومراحل ما بعد التدخل الروسي وتعطيل الاستراتيجية الأميركية في سوريا وإفشال أهدافها، وبعيداً عن قراءة الفشل الأميركي في استمالة روسيا أو سقوط رهانها الابتدائي على سقوط الروس وفشلهم ميدانياً، السؤال الرئيسي في هذه المرحلة يتعلق بخيارات واشنطن لصد الروس وإفشال الاندفاعة لديهم ولدى حلفائهم، وفي حد أدنى الموازنة الميدانية معهم والمسلحين.
تفكّر واشنطن في خيارات عملية تجنّبها التورط المباشر

ربطاً بالمحذور الاميركي، تفكّر واشنطن في خيارات عملية تجنبها التورط المباشر الواسع، وفي الوقت نفسه تكون خيارات من شأنها التأثير ميدانياً في روسيا وحلفائها. تُستحضر في هذا الاطار غارات جوية محدودة على الدولة السورية وجيشها؛ صواريخ جوالة عن بعد؛ وزيادة جرعة الاعانة العسكرية للمسلحين من ناحية النوعية. إلا أن مشكلة أميركا، أن الاطراف المقابلة من روسيا إلى إيران وحزب الله، يدركون أن واشنطن إذا حُشرت فستفعل كل ما في وسعها لتجنب التورط المباشر، والتسبب بمعركة من شأنها تفجير الاقليم. هذا الادراك من شأنه أن يوسع هامش هذه الأطراف للوقوف أمامها لصدها، بغض النظر عن كيفية هذا الوقوف والصد. إذ من غير المتوقع أن يقف محور المقاومة مكتوف الأيدي أمام الخطر الداهم على الوجود والمصير، بكل المقاييس على مستوى المنطقة.
عندما يريد الأميركي أن يدرس خطوات من هذا النوع، يدرك أنّ عليه الإجابة عن سؤال لا ينفك ومرتبط بهذه الخطوات: ماذا لو جاء الرد على أي تدخل بما يعطل نتائجه؟ في حينه ما هي الخيارات المتاحة امام واشنطن؟ هل تتوجه نحو توسيع نطاق التدخل للرد على الرد وتوسيع نطاق المعركة المباشرة وتعميقها، أي التسبب بتفجير قبالة الروسي مباشرة؟ بما أنه لا جواب، ومع الادراك المسبق للوقوع في المحذور، لا يبعد أن تقف واشنطن متسمّرة بلا حراك من البداية، أمام خيارات ومقامرة كهذه.
مع ذلك، وإضافة إليه، يوجد عامل مهم جداً يرتبط بالتوقيت. حرص أوباما على مقاربة السياسة الخارجية بأن تكون شبه خالية من التدخل العسكري المباشر، وهو يحرص على أن يورث هذه العقيدة لمن يليه في المنصب. طوال ثماني سنوات في البيت الأبيض، عمل أوباما على انقاذ أميركا من التورط الذي قاد إليه بوش، ومن الصعب التصور أنه سيعمد في الأسابيع الأخيرة من ولايته إلى نسف هذه العقيدة والتراجع عن مقاربة السنوات الماضية. هذه الحيثية حاضرة أيضاً لدى الروسي وحلفائه، ويؤسسون عليها أيضاً لفهم الموقف والتحرك المقابل، إذ يدركون أن هامش المبادرة العسكرية المباشرة لدى الإدارة الأميركية، مقلص وضيق.
مع ذلك، تحليلات الدارونية السياسية، تؤكد وتراهن على مجيء رئيس جديد للولايات المتحدة، وأن الإدارة الجديدة قد تعمد الى تغييرات كبيرة. الخطأ، كما يبدو، هو أنّ هؤلاء يتجاوزون مسألة أساسية لدى الأميركيين ومقاربتهم للسياسة الخارجية. هؤلاء ينظرون إلى أزمة الولايات المتحدة أنها أزمة شخص ورئيس لا أزمة امبراطورية، وهي الازمة نفسها التي ما زالت قائمة، وهي التي دفعت الاميركيين لإختيار أوباما نفسه، لإخراجهم منها. مع ذلك، يمكن مماشاة هذه الرؤية وبحد أقصى التقدير بأن تغييرا ما قد يأتي مع مجيء هيلاري كلينتون إلى البيت الأبيض، لكنه «تغيير ما»، ولن يكون بالمستوى الذي يأمله كل من هو في الطرف الآخر.
مع ذلك، أيضاً، يبقى أحد الخيارات النظرية الموضوعة على طاولة القرار في واشنطن: ارهاق واستنزاف روسيا وحلفائها، ودفع موسكو الى مستنقع شبيه بمستنقع افغانستان للقرن الماضي، وذلك عبر امداد المسلحين بأسلحة نوعية تثقل على الروس وعلى سلاح الجو الروسي. إلا أنّ هذا الخيار وإمكاناته الفعلية كانا حاضرين لدى الروس وحلفائهم من بداية التدخل. ولكي تتحوّل سوريا إلى مستنقع يجب أن تتمدد القوات الروسية على نحو واسع في سوريا، وهو ما لا ضرورة له في ظل وجود حلفائها برياً. وهم يؤدون المهمة في الأساس قبل تدخّل موسكو وما بعده. صحيح أن ذلك لا يلغي أن تعمد واشنطن الى تزويد المسلحين بأسلحة نوعية، لكن من المتعذر أن يكون سلاحاً بمستوى ما يطمحون اليه، لأن سلاحاً من هذا النوع لا يَفْرق كثيراً عن التدخل العسكري المباشر في مواجهة مع الروس.