"هذا فراق بيننا". كان ذاك فصل الخطاب - كما يقولون - بين "بكيزة" وجدتي "سودة". أجل، بكيزة هي عينها المسنّة ذات القامة القصيرة والفستان الأصفر والظهر المقوس قليلاً، التي كانت تربطها علاقة متينة بجدتي.كانت بكيزة مقربة من سودة كثيراً. حتى إنه كان لهما طقوس خاصة، كـ"يوم الفروج المشوي". كنا نرى بكيزة كل أربعاء عند أذان الظهر تدخل إلى "دار سيدي"، محدِّدةً مسارها نحو غرفة سودة، فتصرخ قبل الدخول: "يا سودة وينك، هياني اجيت". وككل أربعاء، تردّ عليها سودة: "ولي بكيزة شو مفكريتني طرشة؟ يفضح حريشك بتوقفي حد دينتي (أذني) وبتصرخي كل مرة! فوتي فوتي". ثم تنادي جدتي علينا - على أي ولد من أحفادها - لتوكله بمهمة شراء الفروج المشوي.

لحظات قليلة ونسمع كل واحدة منهما تتسارع لفضفضة ما تعتبره هموماً ومشاكل: كالضجة التي يسببها الأحفاد "المشيطنون" أو تقصير الأبناء تجاههما أو مشاكل الكناين أو ما فعلته سميرة وغيرها من جارات الحارة. وكأنهما في موعد أسبوعي مع البحر العميق، حافظ أسرارهما التي لا تنتهي. ثم يحضر ما يسكتهما كليهما؛ الفروج. كانا متفقتين حتى على تقسيمه: بكيزة تأكل الجلد المحمر والجوانح المقرمشة والفخذين الممتلئتين، وسودة لها الصدر.
آه، كدت أنسى قنينة المشروب الغازي سفن آب (7 up) التي تبقى من أسبوع لأسبوع في خزانتها. تسكب منها ثم تغلقها بإحكام وتعيدها إلى مكانها ثم تغلق الخزانة بالمفتاح وتضعه داخل صدريتها حيث تضع المال الملفوف بقطعة قماش صغيرة.
وما كان يضحكنا جميعاً - أبناءها، أحفادها وأقاربها - أنه عندما يمرّ أحدنا عليها بعد الظهر حاملاً صحن طبيخ ويسألها ما إذا كانت بحاجة لشيء، فتجيب "بمسكنة" و"تململ": "بعدني على لحم بطني الله وكيلك"! ما يعني أنها لم تأكل شيئاً حتى الآن وأننا مقصرون تجاهها دوماً.
كل ذلك عادي جداً بالنسبة إلينا، لكن الحدث الجلل هو فراقها عن بكيزة، فهما لطالما تشاجرتا كل أسبوع على كل شي تقريباً، لكن الشجار كان ينتهي وقت وصول الفروج! وفي أسوأ الاحتمالات في اليوم التالي. أما ذلك اليوم؟ فقد أتت بكيزة كعادتها إلى جدتي، لكن سودة لم تجبها كالمعتاد، فدخلت الغرفة، وإذ بجدتي تنتظرها وملامح الغضب بارزة على وجهها وبين طياته وتجاعيده. تشاجرتا لدقائق قليلة، ثم خرجت بكيزة وهي تبكي بصوت خافت. ومنذ ذلك اليوم لم تعد بكيزة إلى دار جدتي، وكذلك سودة لم تأكل الفروج من وقتها. تقول أمي إن بكيزة بالت على فراش جدتي لاشعورياً وهي نائمة. لربما كان ذلك صحيحاً، فهي كبيرة في السن، وهذه عوارض طبيعية إلى حد ما، لكني لست مقتنعة بأن ذلك هو السبب الرئيسي وراء نهاية صداقتهما إلى الأبد، فبكيزة توفيت بعدها بسنين، لم تكن سودة حاضرة في وداعها، ولم تحرك جفناً – على الأقل أمامنا – عند معرفة الخبر.