مع تقدم معركة الموصل وبعثها بإشارات متعددة إلى اقتراب الحسم، يتصاعد الحديث عن وضعي العراق السياسي والإداري "ما بعد حقبة داعش". حديث تتفاوت اتجاهاته ما بين دعوات تقسيمية وأخرى فدرالية وثالثة تصالحية، إلا أن ما بدا أكثر بروزاً خلال الأيام القليلة الماضية خطاب يستعيد موضوعات وطنية راجت على نطاق واسع في السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي لبلاد الرافدين. مردّ ذلك، حملة إعلامية بدأها زعيم "التحالف الوطني"، عمار الحكيم، للترويج لـ"وثيقة للتسوية الوطنية" التي يعتزم "التحالف" طرحها على المكونات عقب انتهاء معركة الموصل.وفق المعلومات المتداولة، تستند الوثيقة المذكورة إلى وثيقة سابقة لـ"المجلس الإسلامي الأعلى"، كان الحكيم قد طرحها في حزيران/ يونيو 2015، تحت عنوان "السلم الأهلي وبناء الدولة". و"التسوية الوطنية" عبارة عن جملة بنود سياسية وإدارية وقانونية أعدّها وزير النفط السابق، الدكتور إبراهيم بحر العلوم، وعُرضت على الهيئتين القيادية والسياسية لـ"التحالف الوطني"، حيث نالت موافقة جميع الأطراف، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، وزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر. ولم تكن الأمم المتحدة بعيدة عن سيرورة إعداد الوثيقة، إذ إن ممثلها في العراق، بان كوبيتش، حضر الاجتماع التحضيري الذي عقده "التحالف" لمناقشة مسودة "التسوية"، كذلك أجرت المنظمة الدولية مشاورات مع أطراف خارجية فاعلة على الساحة العراقية (إيران وتركيا والسعودية ودول خليجية وعربية) بهذا الشأن، ووعدت بتجميع مقترحات الأطراف كافة لصوغ ورقة نهائية تقوم على حمايتها وتنفيذها.
في المضمون، ترتكز الوثيقة على أربعة أسس رئيسة هي: الالتزام الشامل لا التنازل الأحادي، إقرار مبدأ لا غالب ولا مغلوب، تصفير الأزمات، ورفض العنف كحل للخلافات. وترتكز، كذلك، على جملة ثوابت من بينها: التزام وحدة العراق والنظام الديموقراطي، رفض التقسيم تحت أي ظرف والتغيير الديموغرافي حتى الذي أجراه النظام السابق، الاعتراف الرسمي بالعملية السياسية التي تفرضها نتائج الانتخابات والامتناع عن ازدواجية المواقف إزاءها والتحريض ضدها، والتزام الدستور كمرجعية للقوى المشاركة وغير المشاركة في العملية السياسية، وحسم القضايا الخلافية على أساس الدستور؛ مع إبقاء الباب مفتوحاً لإمكانية تعديله. وتشدد الوثيقة، أيضاً، على التزام محاربة الإرهاب، ورفض الحكم الديكتاتوري والتفرد، وإتمام المصالحة بين كل الأطراف باستثناء القوى الإرهابية وحزب "البعث"، والامتناع عن التكفير وتخوين الآخر، وإقرار التسامح والتعايش والانتماء الوطني، وحصر السلاح بيد الدولة، والتزام مبدأ الحياد والتوازن في العلاقات مع دول العالم، فضلاً عن اعتماد اقتصاد حر متعدد، والتزام التوزيع العادل للثروات بحسب النسب السكانية للمحافظات.
عملياً، بدأ عرابو هذه الرزمة العمل على تسويقها لدى "المكون السنّي" بهدف استقطابه إلى "التسوية التاريخية" التي كانت الأمم المتحدة قد دعت العراقيين، الشهر الماضي، إلى الانخراط في حوار جدي من أجلها. هنا يدور الحديث عن مفاوضات بين ممثلين عن "المجلس الأعلى" وبين محافظ نينوى السابق، أثيل النجيفي، ووزير المالية السابق، رافع العيساوي، اللذين يشكلان رأس حربة دعاة "الإقليم السني". كذلك يدور الحديث عن جهود أممية لجمع ثلاثة مكونات سنية من الداخل والخارج والقوى التي قاومت "داعش" بهدف تقديمها كقوة سياسية يمكن التفاوض معها. في هذا الإطار، لا يزال نائب الرئيس العراقي الأسبق، طارق الهاشمي، ورئيس "هيئة علماء المسلمين"، مثنى حارث الضاري، حتى الآن، منفيين من قائمة المرشحين لتوقيع الوثيقة، إلا أنه لا يُستبعد انضمامهما إليها إلى جانب الأمين العام لـ"المشروع العربي في العراق"، خميس الخنجر، والنائب السابق، محمد الدايني، وشخصيات أخرى مطلوبة للقضاء وموجودة خارج العراق، سيُستفاد من قانون العفو العام الذي أقره البرلمان في آب/أغسطس الماضي لاستعادتها.
على مستوى العامل الإقليمي، يبدو أن ثمة دفعاً إيرانياً باتجاه إتمام "التسوية الوطنية". ويعزز الاحتمال المتقدم أن الإعلان الرسمي من قبل عمار الحكيم، أول من أمس، عن "إعداد العدة لتقديم وثيقة مهمة للتسوية الوطنية، تمثل مشروعاً سياسياً جامعاً للعراقيين، بالتزامن مع تحرير مدينة الموصل"، جاء عقب اجتماعه وأعضاء "التحالف الوطني" برئيس السلطة القضائية في إيران، الشيخ آملي لاريجاني. ما تتطلع إليه طهران، ربما، الالتفاف على أي محاولة لسلخ المحافظات الغربية من العراق بعد استعادتها من "داعش"، وتحاشي التصادم مع أنقرة التي تريد فرض نفسها لاعباً رئيساً في الديناميات الدائرة اليوم وما سيعقبها. من هنا، قد يكون التواصل مع النجيفي وغيره من الشخصيات المقربة من تركيا محاولة لطمأنة الأخيرة إلى أنها لن تكون خارج الخريطة التي ستتشكل مستقبلاً. محاولة لا يُستبعد أن تلقى تلقفاً لدى أنقرة، على الرغم من تعثر المفاوضات مع النجيفي، ومما تظهره تركيا من تعنت عسكري على حدود الموصل لا يزال، حتى الآن، في إطار التشويش والقنابل الصوتية.
في كل الأحوال، إذا ما وجدت وثيقة "التسوية الوطنية" سبيلها إلى الإقرار، وجرى التصويت عليها في البرلمان لتكون "اتفاقاً وعقداً وطنياً بين كل المكونات العراقية"، فإنّ ذلك لا يعني أنها ستلقى سبيلها إلى التنفيذ، إذ إن دونها إشكالات وعقبات متعددة قد تجعل مصيرها مشابهاً لما لاقته اتفاقية مكة واتفاقية أربيل وغيرهما من الاتفاقات والمبادرات التي أريد لها نزع فتيل الأزمة في العراق. في مقدمة تلك الإشكالات تأتي الخلافات داخل "البيت الشيعي"، خلافات ما زالت متمحورة حول مواقع النفوذ وحصص السلطة، ما يجعل الولوج الحقيقي في بناء دولة ما بعد الاحتلال الأميركي بعيد المنال، على الأقل. "سنياً"، لا وجود، إلى اللحظة، لضمانات جدية بتحرر الشخصيات والقوى التقليدية من "نوستالجيا" الدولة "البعثية الصدّامية"، كذلك إن الوجوه المعتدلة التي يمكنها أن تسير بركب المكون السني إلى الدولة لا تزال مستبعدة من أي سيرورة لإنتاج تسوية حقيقية في العراق. الأخطر مما تقدم، أن إقليم كردستان يتجه أكثر فأكثر نحو تثبيت "استقلالية" سياسية وإدارية واقتصادية عن بغداد، مصراً على تظهير كل ما يناوئ الدولة العراقية في الرؤية الاستراتيجية والسياسة الخارجية، خصوصاً في ما يتصل بالعلاقة مع إسرائيل.
إقليمياً ودولياً، لا شيء يشي بأن الولايات المتحدة وحلفاءها من دول الخليج سيتيحون الفرصة لمصالحة مجتمعية وسياسية، توطئ لعملية ديموقراطية مكتملة الأركان، وتعبّد الطريق أمام استقرار طويل الأمد يتيح لبغداد معالجة مشكلاتها الاقتصادية المتراكمة. وما يعزز تلك المخاوف التجارب السابقة التي ما إن كان يُسمح للعراقيين فيها باستعادة أنفاسهم، حتى يُعاد الانقضاض عليهم بالخلايا الإرهابية والتدخلات الأجنبية. بناءً على ذلك، قد لا تكون وثيقة "التسوية الوطنية" أكثر من وصفة لإعادة إنتاج الأوضاع التي حكمت بلاد الرافدين منذ عام 2003.