بينما تمثّل «مرحلة ما بعد عباس»، مِحنة يمكن لحركة «فتح» تحويلها إلى مِنْحة، وإلا فستواجه مصير التشظي وفقدان قطاع غزة، فإنها على العكس لدى الفصائل الفلسطينية، وخاصة حركة «حماس». وبرغم أن وضع السلطة الآن لا يمثّل للأخيرة حالة مغرية، في ظل تغلغل الإسرائيليين وتحكمهم بالضفة المحتلة على جميع الأصعدة، فإن انهيار السلطة سينقل الشرعية مباشرة إليها، وكذلك الأمر مع تفتت «فتح» ودخولها في صراع مسلح، فهو بقدر ما سيكون سيناريو سيئاً على أكثر من طرف، لكنه كتحصيل حاصل سيقدّم موضع «حماس» إلى الرقم واحد.بالقدر نفسه، سيفتح هذا النكوص المجال لفصائل أخرى، وخاصة اليسار المشارك في «منظمة التحرير الفلسطينية»، في ظل قرار «الجهاد الإسلامي» المبدئي الابتعاد عن تفرّعات «أوسلو»، إلا إن قررت الأخيرة المشاركة في المرحلة السياسية التي ستلي العهد الثاني من السلطة، أي ما بعد ياسر عرفات ومحمود عباس، بصيغة مباشرة، أو بدخولها إلى «المنظمة» بعد إعادة ترتيب الأوراق وإنهاء الاعتراف بإسرائيل.

فرص «حماس»

اذا استطاعت «حماس» بطريقة ما الدخول إلى اللعبة السياسية في الضفة، برغم تغييب قادتها في السجون، فستؤكد أن وجود هذا المنصب لن يكون هدفه إعادة تجربة «فتح» ومفاوضة إسرائيل، إنما الانطلاق منه للحصول على شرعية عربية ودولية.
أما في حال تماسك «فتح» والإتيان برئيس جديد، فإن «حماس» أمام سيناريوهات منها: أن يأتي رئيس «أسوأ» بالنسبة إليها من عباس، الأمر الذي سيزيد أزماتها وقد يذهب بالانقسام إلى ما هو أبعد منه الآن، وإما أن يأتي رئيس «أفضل» لها من عباس، وفي هذه الحالة لن ينتهي الانقسام كلياً لكن العلاقات بين غزة والضفة ستتحسن أكثر، وأخيراً، أن يصل أحد المقربين منها إلى رئاسة السلطة أو الوزراء، برغم أنه خيار مستبعد، لكن حدوثه سيعني تمهيداً لدخول «حماس» بكلّها وبكليلها إلى مشروع أوسلو.
السيناريو الأسوأ سياسياً، هو نشوب صراع مسلح فتحاوي في الضفة، تليه عرقلة الإسرائيليين انتخاب رئيس للسلطة، ما يذهب بالضفة إلى سلطة حكم ذاتي جديدة ــ تعتمد على العشائرية في مدنها الجنوبية تحديداً ــ مع حضور أمني أوسع لها، قد يشهد عودة «الميركافاه» إلى شوارع الضفة. هنا ستبقى السلطة برأسين أساسيين: رئيس وزراء، ومسؤول أعلى عن الأجهزة الأمنية.
مع أن المتوقع في هذه الحالة انتفاضة شعبية على هذه الإدارة المدنية الجديدة، في ضوء أنها ستكون أعجز عن تحصيل حقوقهم من السلطة القائمة حاليا، فإن «حماس» قد تجد نفسها مضطرة إلى فصل غزة عن الضفة وإعادة حكمها لها بصيغة مختلفة تشمل في حدّها الأدنى رئيساً للوزراء.
من المهم التذكير بأنه مهما تكن «حماس» قد حققت في الداخل الفلسطيني من تقدم بسبب تراجع «فتح» وضعف السلطة، فإن البوابة العربية والدولية لن تصير مفتوحة على مصراعيها لها، إلا اذا كانت هناك رغبة عربية أو دولية في «ترويض» الحركة عبر القبول الدولي منعاً لنشوب حرب جديدة مع إسرائيل، وهو أمر في المبدأ لا تزال ترفضه الأخيرة، وتجربته لم تؤتِ نتائج كبيرة.

الفصائل الأخرى

بجانب «فتح»، يصطف خليط من المنظمات الفلسطينية (اليسارية) الضعيفة بمقدّراتها والقويّة بحضورها التاريخي، أههمها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، و«الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين»، وستة تنظيمات أخرى تشارك في السلطة أو «منظمة التحرير».
غالبية هذه الأحزاب نشأت عبر انشقاقات متوالية من «الجبهة الشعبية» و«فتح»، وهي لا تمثل مجتمعة قوة يسار متزنة داخل اللعبة السياسية الفلسطينية، فضلاً على أن تسمية اليسار تطلق على هذه القوى بناء على أصل المنشأ، لكن الممارسة السياسية لكل منها قد تصل إلى أقصى اليمين، إضافة إلى الاختلاف بين سلوك قادتها في الضفة وغزة.
انهيار السلطة سينقل الشرعية الشعبيّة مباشرة إلى «حماس»

لكنْ، سيمثل غياب «أبو مازن» ومعاودة استئثار «فتح» بمؤسسات «الدولة» سبباً لإشعال النار بينها مجدداً، وذلك لحجز مقاعد حضورية في عدد من اللجان الأساسية، وبالطبع، لن تمانع أن تعقد تحالفاً مع «حماس» اذا لزم ذلك.
بالنسبة إلى «الجهاد الإسلامي»، التي قدمت مبادرة جديدة نهاية الشهر الماضي ورحبت بها قوى سياسية متناقضة في ما بينها بصورة لافتة، فإنها تطمح الى إنهاء «حقبة أوسلو» وتبعاتها، وستستغل أي فرصة لإعادة المقاومة انطلاقاً من الضفة المحتلة، إلا اذا قررت سلوك مسار سياسي مشترك مع «حماس» ضمن السيناريوهات التي تواجه الحركة الإخوانية، وقد أشير إليها.

السيناريوهات المتوقعة

بعد استعراض المسارات المحتملة للسلطة الفلسطينية وحركة «فتح»، والموقف الذي يمكن لإسرائيل أن تتخذه بناء على تطوّر الأحداث، في الحلقة الأولى (راجع عدد الأمس)، وبعد معرفة فرص الفصائل الأخرى للاستفادة، أو التضرر، من «مرحلة بعد عباس»، يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات متوقعة:
السيناريو الأول: استمرار عباس في الحكم لسنة أو اثنتين بالوتيرة نفسها؛ تستقر صحة محمود عباس ويكمل استفراده بالحكم وتنحية معارضيه وكل من يشك فيهم، وفي الوقت نفسه، تواصل الأجهزة الأمنية التابعة له ضبط الأوضاع في الضفة، بالتزامن مع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية. وبرغم أن مستقبل الهبّة الشعبية يبقى رهن ظروف عدة، لن تتطور إلى عمليات مسلحة. في هذا الوقت، تختفي تدريجيا التكهنات بشأن مستقبل السلطة «ما بعد رحيل أبو مازن»، مع أنها ستبقى قضية مطروحة إعلامياً ويغذيها خصومه.
السيناريو الثاني: تنحّي عباس أو صعوبة ممارسته مهماته بسبب الوضع الصحي؛ يقرر عباس في أقرب فرصة التنحي بعد اختيار نائب له نهاية الشهر الجاري، ويبدأ تخفيف المناصب التي لديه، وخاصة مسؤوليّاته في «فتح»، فيما يواصل الترتيب لشخص يخلفه يكون راضياً عنه، كما يغلق الطرق على خصومه وخاصة محمد دحلان، لكنّ الشخصية التي سيختارها «أبو مازن» سوف تكون متوافقة مع خطّه السياسي، ما يعني أن السلطة ستستمر كما كانت في عهده.
السيناريو الثالث: تنحية عباس ووضع بديل يرضي إسرائيل وقائمة أصدقائها وحلفائها طويلة؛ يواصل محمد دحلان كسب عدد كبير من قادة وكوادر فتحاويين بسبب سياسات عباس الإقصائية، ويتزايد الدعم العربي لدحلان في ظل رفض عباس مصالحته ومضيّ «المؤتمر السابع لفتح» من دون حضور «أبو فادي» ورجاله، وهو ما يولّد ضغوطاً على رئيس السلطة قد تنتهي بقبوله التنحي. وفي ظل أن المؤتمر الحركي سيخفق في اختيار نائب له، ومع رفض مصر والأردن والسعودية والإمارات إجراء انتخابات بحضور قوي لـ«حماس»، سوف تحدث مداورة فتحاوية بتنسيق عربي ــ دولي وقبول إسرائيلي لإحلال بديل عنه ــ ليس بالضرورة دحلان ــ يواصل السير بالسلطة كما هو مقرر لها دولياً وإسرائيلياً.