من غير المفاجئ أن يوجه وزير الأمن الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان قيادة الجيش بمتابعة معركة الموصل، والعمل على استخلاص العبر من مجرياتها. وتستند هذه التعليمات إلى قراءة إسرائيلية ترى أن هناك العديد من أوجه التشابه بين معركة الموصل مع أي معركة لاحقة قد يخوضها الجيش الإسرائيلي ضد حزب الله أو حركة حماس في غزة. خلاصة هذه القراءة تتمحور حول أن هناك جيوشاً نظامية تخوض معركة استئصال ضد تنظيم عسكري يسمي نفسه دولة في مدينة الموصل ومحافظتها. وبالتالي يمكن الاستفادة من كافة أوجه مجريات هذه المعركة، ونتائجها، وتوظيفها في عملية الإعداد المتواصل التي يقوم بها الجيش النظامي الإسرائيلي لخوض معارك قاسية ضد حزب الله وحركة حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية.مع ذلك، من اللافت جداً أن يصدر مثل هذا التوجيه عن شخصية لا تتمتع بأي خبرة مهنية عسكرية. بل في مثل هذه الحالات، لا ينتظر الجيش تعليمات من هذا النوع لدراسة العبر واستخلاصها من أي معركة عسكرية، خاصة أنها تجري في الحيّز الإقليمي القريب الذي قد يكون له مفاعيله وتداعياته على مجمل البيئة الاستراتيجية المحيطة بالكيان الإسرائيلي. وما يعزز هذا الانطباع أيضاً، أن عملية استخلاص العبر هي مسألة مهنية تقوم بها القيادة العسكرية من دون أن تنتظر تعليمات محددة من المستوى السياسي. وبالتالي، ليس من المستبعد أن يكون الهدف من مثل هذه التوجيهات التي صدرت في وسائل الإعلام الإسرائيلية، توجيه رسائل سياسية وردعية، وخاصة في مواجهة غزة، بعد أيام على التهديدات التي أطلقها ليبرمان في خلال مقابلته مع صحيفة القدس الفلسطينية، بأن أي حرب أخيرة مع قطاع غزة ستكون الأخيرة، لأنها ستؤدي إلى إسقاط حكم حماس.
يمكن التقدير أن هناك أكثر من مفهوم قد يحضر لدى القيادة العسكرية في تل أبيب. منها ما يتصل بكيفية استفادة الجيش الإسرائيلي من أداء الجيش العراقي والدور الأميركي في مواجهة تنظيم داعش والنتائج التي ستترتب. ومنها ما يتصل بفرضية إمكانية استفادة فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين من هذه المعركة، وبالتالي ما الذي يمكن الجيش القيام به.
في المقابل، ينبغي التذكير بعملية استخلاص العبر الأكثر فشلاً في تاريخ إسرائيل. عندما رأت القيادة العسكرية والسياسية في تل أبيب في نجاح الحرب الأميركية على يوغوسلافيا عام 1999، وعلى العراق عام 2003، التي استندت بنحو رئيسي على سلاح الجو، سيناريو يمكن تكراره في مواجهة حزب الله. وما أسهم في تورط القيادتين السياسية والعسكرية في تل أبيب، ومعها واشنطن، برفع سقف الرهانات في حينه، تطور التكنولوجية العسكرية غير المسبوق، وتوافر الأسلحة الدقيقة الإصابة التي كان يفترض أن تحسم المعركة في مقابل حركة مقاومة – حزب الله – لا تملك (في حينه) ما يملكه العراق أو يوغوسلافيا من قدرات. لكن النتيجة كانت أن ما نجحت به الولايات المتحدة في تلك الحربين، فشلت به إسرائيل، ومن ورائها واشنطن، في مواجهة حزب الله، ولاحقاً في مواجهة غزة.
مع ذلك، ينبغي تأكيد حقيقة أن الفشل الإسرائيلي لم يكن أمراً مسلماً وتلقائياً. بل أتى نتيجة إدراك حزب الله المسبق للخطة الإسرائيلية وترجمة ذلك عبر خطة مضادة برزت نتائجها في الميدان. وبدلاً من أن تكون إسرائيل هي المبدعة في تلك الحرب، أثبت حزب الله أنه لا يقل، بل أكثر، براعة من جيش العدو في استخلاص العبر واستشراف المخاطر والإعداد لها بما يتلاءم.
فشلت إسرائيل في توظيف عِبر حروب أميركا بفعل استعداد حزب الله

في ما يتعلق بمعركة الموصل، صحيح أن الجيش الإسرائيلي سيحاول الاستفادة منها بأقصى ما يمكن. لكن هناك مجموعة من القيود ستُسهم جداً في الحدّ من الاستفادة الإسرائيلية. أول ميزة ينبغي أن تحضر، أن الحرب ضد داعش هي ضد تنظيم إرهابي لا يجرؤ حتى المراهنون عليه وداعموه إعلان تبنيه صراحةً. وهو تنظيم منبوذ من الشعب الذي يحكمه ويسيطر عليه. في المقابل، المقاومة في لبنان وفلسطين تدافع عن شعبها الذي يحتضنها، وأي مواجهة ستخوضها ستكون دفاعاً عن هذا الشعب، بل هي تجسيد لإرادته في الدفاع والتحرير. نظرياً يمكن استئصال أي تنظيم أو حركة لها حضور عرضي في أي ساحة شعبية. لكن في حالة حزب الله، وفصائل المقاومة في فلسطين، لا يمكن القضاء عليهم إلا بالقضاء على الشعب نفسه، واستمرارهم باستمرار الشعب الذي يعبّرون عن هويته وخياراته.
على المستوى العملاني. صحيح أن داعش أثبت امتلاكه القدرة على استهداف العمق العراقي عبر السيارات المفخخة، وعبر توجيه العديد من الضربات خارجه، لكنه لم يرق إلى ما يسمح بفرض معادلة ردع تحمي كيانه ووجوده وتؤثر في مجريات المعركة.
في المقابل، يستند حزب الله – من ضمن استراتيجية أوسع – إلى قدرات صاروخية هائلة تستطيع أن تدك العمق الإسرائيلي بما فيها أكثر المناطق حساسية في الكيان. وهو عامل حضر طوال السنوات التي تلت عام 2006، وأسهم بنحو جوهري في تعزيز قدرة ردع استراتيجي نجح حزب الله في تطويرها وتوظيفها والاستفادة منها بأقصى ما يمكن، ولا يزال. وسيكون لهذه القدرات وفق اعترافات أعلى القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية دور أساسي في أي معركة مفترضة في المستقبل، ولأنها كذلك ما زالت إسرائيل تتردد وتمتنع عن التورط في مغامرة محلية لبنانية، أو حتى إقليمية.
في السياق نفسه، تموضع حزب الله على حدود الأراضي المحتلة، وأيضاً وجود فصائل المقاومة الفلسطينية في قلب فلسطين، يمنحهما هامشاً أوسع في المواجهة مع الكيان الإسرائيلي، بما فيها القدرة على التوغل إلى الداخل الإسرائيلي، وهو أمر لا تقتصر إمكانيته على فترة احتدام المعارك.
في كل الأحوال، أثبتت العديد من محطات المواجهة مع إسرائيل أن مسار حزب الله في تطوير قدراته وخبراته، كان تصاعدياً على الدوام (كما استفادت فصائل المقاومة في غزة من تجارب حزب الله بما يتناسب مع ظروفها). وبرز ذلك في أكثر من مواجهة مفصلية بين حزب الله وجيش العدو في خلال تسعينيات القرن الماضي، وآخرها في حرب عام 2006، والأمر نفسه ينسحب على الحرب التي يخوضها ضد التهديد التكفيري.
ويحضر هذا المفهوم لدى الخبراء في الكيان الإسرائيلي الذين عبروا عن مخاوفهم في أكثر من مناسبة، وأكدوا في خلالها أن من أبرز ما يقلق إسرائيل، حضور حزب الله المباشر في معارك العراق وسوريا إلى جانب جيوش نظامية، وهو ما سيمنحه المزيد من الخبرة على مستوى التكتيكات القتالية.