شهر واحد كان كافياً ليقلب حياة سكان قرية بكاملها. القصة بدأت فصولها في منتصف العقد الماضي، عندما كان باحثو مؤسسة أهلية للتنمية يجولون على قرى الريف السوري لرصد مؤشراته الاقتصادية والاجتماعية، في سياق تنفيذ مشروع تنموي.يروي باحث اقتصادي شارك في ذلك المشروع، أن ما لفت انتباهه في زيارته الثانية لإحدى القرى بريف إدلب، أن معظم نساء القرية أصبحن منقبات خلال شهر واحد فقط من زيارته الأولى. يسأل الباحث الشاب عن سبب هذا التحول المفاجئ والسريع، فتأتيه الإجابة من بعض أبناء القرية، أن ذلك جرى بتأثير من إمام المسجد الجديد، العائد حديثاً من العراق، بعد مشاركته في "الجهاد" ضد الاحتلال الأميركي.
هذه الحادثة، وغيرها الكثير، لم تكن تؤشر إلى طبيعة التحولات التي كانت تحفر عميقاً في ثنايا المجتمع السوري فقط، وإنما كانت تؤكد أيضاً أن كل ذلك كان يحدث من دون أن تبدي الدولة السورية بمؤسساتها الرسمية والأهلية أي مقاومة تذكر، سواء بمواجهة مثل هذه الحوادث، أو عبر مراقبة ودراسة العوامل والظواهر المؤثرة في ثقافة المجتمع، وتوجهاته الفكرية والدينية وسلوك أفراده. لا بل إن سطوة العلاقات السياسية وأولوياتها، شجعت على «غض الطرف» عن السلبيات الكثيرة التي كانت تلحق بالقطاعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، جراء تلك العلاقات. وهنا يحضر مثلان، الأول يتعلق بالخسائر الاقتصادية الكبيرة التي نجمت عن الانفتاح السياسي الواسع على تركيا، ومعامل حلب أنموذجاً صارخاً على تلك الخسائر. أما المثال الثاني، وهو الأعمق والأقدم، فيتعلق بتأثير الثقافة الخليجية عامة، والسعودية خاصة، في حياة السوريين ومعتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وصولاً إلى مرحلة يؤكد الكاتب محمد عيسى صاحب «دار نشر الينابيع»، أن «المقصود منها انتخاب بيئة اجتماعية، وتظهيرها على أنها هي الأصل الحقيقي لسوريا»، مستشهداً بالمسلسل الدرامي الشهير «باب الحارة». وفي حديثه لـ «الأخبار» يحدد عيسى قنوات رئيسية عدة، تشرّب من خلالها المجتمع السوري أشكالاً مختلفة من الثقافة السعودية. يشير إلى ظاهرة «القبيسيات» التي ظهرت في التسعينات، ثم «تدرجت الأمور باتجاه إنشاء مجموعة ضخمة من المطاعم والمنشآت السياحية التي تقدم الطعام الخليجي. وقد أحدثت قرى سياحية بكاملها على طريق المطار». كذلك الأمر بالنسبة إلى سوق الدراما السورية، «إذ جرى تمويل العديد من الأعمال الدرامية. لا بل وصل بهم الأمر إلى فرض رأيهم على الدراما». مضيفاً أن «المال السعودي، والخليجي عموماً، ساهم أيضاً في جذب العديد من الأدباء عبر المهرجانات الشعرية والجوائز الخليجية، وهذا ما حدث أيضاً في المجالات الفنية والثقافية والإعلامية».
وبغض النظر عن ماهية المحتوى الذي كانت تحمله المطبوعات الخليجية من صحف ومجلات ودوريات، جاداً وتنويرياً أم ترفيهياً ومتطرفاً، فإنّها كانت تحقق خلال سنوات ما قبل الأزمة انتشاراً ملحوظاً في السوق السورية. وبحسب ما يؤكده مصدر خاص في «الشركة السورية لتوزيع المطبوعات»، فإن هذه المطبوعات كانت توزع ما يزيد على 100 ألف نسخة وبأسعار منافسة جداً، وهذا رقم يكاد يساوي رقم توزيع الصحف المحلية السورية. وعلى افتراض أن نسخة المطبوعة الواحدة يقرأها خمسة أشخاص، فهذا يعني أنه كان هناك نصف مليون سوري يتأثرون سلباً أو ايجاباً بما تنشره تلك المطبوعات.
وأكثر من ذلك، فإنه لسنوات طويلة ظلت الكتب الدينية، وقد كان جزء كبير منها يروج للفكر الوهابي، تتصدر قائمة الكتب المباعة في سوريا، وتنتشر عبر قنوات «جماهيرية» كمعارض الكتب ودور النشر. ففي «معرض الكتاب السنوي» لمكتبة الأسد الوطنية، دورة عام 2011، كانت الكتب الخاصة بالديانات الأكثر مبيعاً، إذ مثّلت مبيعاتها نحو 23 في المئة من إجمالي 23500 كتاب بيعت خلال تلك الدورة.

مليونان ونصف مليون

حالة الاسترخاء التي كانت تعيشها مؤسسات الدولة، في وقت كانت فيه ثقافات الآخرين تنخر في جسد المجتمع، تبلورت أكثر مع آلاف السوريين الذين قصدوا وعائلاتهم المملكة «الشقيقة» طلباً للعمل، أو لقضاء الفترة الزمنية التي تسمح لهم بدفع البدل النقدي للخدمة الإلزامية، فتأثروا بطريقة أو بأخرى بطريقة الحياة السعودية وتقاليدها، من اللباس والمأكل، إلى الأفكار والمعتقدات، فطريقة ممارسة الشعائر الإسلامية. وعندما عادوا بعد سنوات إلى قراهم ومناطقهم في الريف السوري، كان معظمهم محملاً بأفكار وسلوكيات، وجدت في ريف يعاني مشاكل تنموية مختلفة، تربة خصبة للانتشار والتأييد.
حققت المنشورات الخليجية انتشاراً ملحوظاً في السوق قبل الأزمة

لا تتوافر حتى اليوم بيانات رسمية عن عدد العمالة السورية في السعودية، إلا أن التقديرات غير الرسمية تؤكد وجود ما يزيد على 300 ألف عامل سوري في المملكة قبل الأزمة، أي نحو المليون سوري إذا ما جرت إضافة عائلاتهم. وبحسب الدكتور شفيق عربش، أستاذ الإحصاء في جامعة دمشق، فإنه «من خلال تتبع حركة هجرة السوريين بحسب المعابر الحدودية وفقاً لبيانات إدارة الهجرة والجوازات، يمكن القول إن عدد السوريين الموجودين حالياً في السعودية يزيد على مليوني شخص، وبالتالي فإن تقديرات العمالة السورية هناك تخلص إلى وجود ما لا يقل عن 750 ألف عامل». وهذا رقم يبدو قريباً إلى الدقة، وخصوصاً مع التصريحات السعودية الرسمية التي أشارت إلى وجود مليونين ونصف مليون «لاجئ» سوري على أراضي المملكة، فيما هم في الواقع عبارة عن العمالة السورية التي مضت على وجودها في المملكة سنوات طويلة، إضافة إلى الجزء الذي تمكن من دخول المملكة بعد نشوب الأزمة. ونحو مزيد من الدقة يكشف الدكتور عربش أن بيانات إدارة الهجرة والجوازات التي اطلع عليها، وتغطي نحو أربع سنوات ونصف سنة من عام 2004 إلى عام 2008، تبين أن «عدد السوريين المهاجرين عبر المنافذ الحدودية وصل لنحو مليونين ونصف مليون شخص، منهم مليون وسبعمئة ألف خرجوا عبر معبر نصيب الحدودي، أي باتجاه دول الخليج، والجزء الأكبر ذهب إلى السعودية، ونحو سبعمئة ألف شخص خرجوا عبر المنافذ الحدودية مع لبنان، ونحو مئتي ألف عبر المطارات السورية».
يرى الصحافي غازي سلامة الذي عمل لفترة ما في إحدى الصحف السعودية، أنه من الطبيعي في ظل الحياة البسيطة التي يحرص المذهب الوهابي على تطبيقها، أن يتأثر العامل الأجنبي العادي بثقافة الحياة السعودية وتقاليدها، لا بل ويعجب بها. فمثلاً هذا العامل الذي تتملكه الرهبة لدى رؤيته لرب عمله السعودي بثيابه الأنيقة وعباءته المذهبة، سرعان ما يجد نفسه في وقت الصلاة يصلي بجانبه، أو قد يؤمه هو وجميع الموظفين على اختلاف مستوياتهم الوظيفية. وهذا ما يمنحه شعوراً بالمساواة والعدالة يفتقده في بلده، الأمر الذي يجعله تالياً متقبلاً أكثر لكل أفكار وقيم هذا المجتمع، الدينية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية. ولا سيما أن ولاء المرء في معظم الأحيان يكون لصاحب العمل ومصدر رزقه. فكيف إذا كان هذا المرء يعاني الفقر والظلم في مجتمعه؟

الاسترخاء الرسمي

قد لا يكون المجتمع السوري مقصوداً لذاته، بالنظر إلى أن نشر الثقافة السعودية ومذهبها الوهابي تخطى منذ سنوات طويلة بعده العربي والإقليمي ليصل إلى مرحلته العالمية، بدليل المراكز الثقافية الكبيرة المنتشرة في دول العالم، والإنفاق المالي الهائل على بناء المساجد وتمويل الجمعيات الدينية، وتعدد جنسيات العاملين في المملكة، لكن سرعة استجابة المجتمع السوري، تطرح تساؤلات عن أسباب تراخي مؤسسات الدولة السورية الثقافية والفكرية والدينية في المواجهة المبكرة لهذا «الغزو» الآتي من قنوات عدة. على الأقل كان بإمكانها الاستفادة من التيارات الثقافية التنويرية الناشطة في دول الخليج من جانب، والعمل على تفعيل مؤسسات البلد التربوية والتعليمية والثقافية، لتعزيز ونشر ثقافة بلاد الشام المعروفة بانفتاحها وتسامحها، ورفضها للعنف ونبذ الأخر من جانب آخر.
لا يجد الكاتب عيسى أملاً في التيارات الثقافية الخليجية المتنورة الراهنة، فهي «وإن كانت موجودة، وخصوصاً في دولة الكويت، تبقى بلا تأثير في الرأي العام. ولن يكون باستطاعتها التأسيس لوعي محلي، بحيث تستطيع أن تمثّل توجهاً ما». فالتيارات التنويرية في الخليج بحسب رأيه «عبارة عن حالة ترفيّة لا أكثر (استهلاك سلعة ما) من غير الممكن أن تتأصل». وهذا رأي لا يتفق معه الصحافي سلامة الذي يعتقد بوجود «تيارات ثقافية وتنويرية جادة في الخليج العربي، إنما قد لا تكون قادرة على إحداث تغيير كبير في بنية المجتمع وثقافته بالنظر إلى سطوة ونفوذ المؤسسة الدينية، وما أفرزته من ثقافات وتقاليد يحتاج تغييرها إلى عمل مجتمعي».