ــ سؤال لا بد منه عن التأثير المتوقع لتغييرات الإدارة الأميركية في ما يخص الشأن السوري؟التوقعات حول تأثير نجاح (الرئيس المنتخب دونالد) ترامب على الملف السوري تتدفق بغزارة، لكنني أعتقد أنها تخمينات قد يصدق بعضها، وقد يُفاجأ الجميع بمواقف جديدة له كما فاجأهم بنجاحه الانتخابي غير المتوقع. من المناسب أن نتذكر دائماً أن ما يقال في الحملات الانتخابية والمرشح خارج المكتب البيضاوي شيء، وما يقوله ويفعله عندما يدخل المكتب قد يكون شيئاً آخر. ألم يعِد باراك أوباما بالختم على قرار إغلاق سجن غوانتانامو فور تسلمه علبة الأختام في البيت الأبيض؟ هل أُغلق السجن؟ دورتان انتخابيتان لم تتيحا لأوباما (الرئيس) أن يُغلق مجرد سجن وعد بإغلاقه. مع ذلك، هناك نقطتان جوهريتان يجب الوقوف عندهما، وهما أن ترامب لا يكنّ لسكان هذا الجزء من العالم الذي نعيش فيه الكثير من الإعجاب والاحترام، أما الثانية فإنه يريد العمل مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين على قاعدة «نحن الأقوياء ويمكننا معاً التفاهم على تدبير مناسب لأمور الضعفاء والأشقياء»، هذا ما استنتجته شخصياً من السطور وما بينها. يجدر القول إن بوتين متحمس لذلك، لا بل يتطلع إليه بشوق، فهو رجل قوي، وتدل سيرته على أنه يُؤمن بالقوة أكثر من إيمانه بأي شيء آخر. وترامب نموذج مشابه جداً. لكن هذه الشراكة ــ إن صح الوصف ــ ستواجه مشكلة في ما يتعلّق بالالتزام والتعهد اللذين ينبعان من حجم التفويض. بوتين يتمتع بحرية فضفاضة وتفويض شبه مطلق، بينما سيكون ترامب في وضع أصعب، لأن تفويض الرئيس الأميركي على قوته واتساعه لا يعادل بحال من الأحوال حجم التفويض الذي يتمتع به القيصر. مهما كان الرئيس الأميركي قوياً، لا يمكن أن يصبح قيصراً، لأن «السيستم» يمنع ذلك، ولديه قوة فعالة في فرملة الرئيس عند اللزوم، وآخر الأمثلة على ذلك هو ما حصل لاتفاق «لافروف كيري» المدعوم من أوباما في أيلول الماضي، حيث أسقط البنتاغون هذا الاتفاق لأنه لا يتماشى مع سياساته كمؤسسة عسكرية. مهما اختلفنا حول أميركا وديمقراطيتها، لكنها في النهاية ليست بلد الـone man show. من هذا المنطلق أقول لا بأس في أن نحلل، ولكن يجب أن لا نستعجل النتائج.
مهما كان الرئيس الأميركي قوياً لا يمكن أن يصبح قيصراً لأن «السيستم» يمنع ذلك

ـــ ما تقييمك للمشهد السوري في العموم في الوقت الراهن، مع الأخذ بعين الاعتبار ما يدور في الشمال ومخاطر التقسيم والغزو التركي المباشر؟ وما مدى فرص وضع الحل السياسي على السكة في ظل هذه التعقيدات؟

بات من نافل القول إن المشهد السوري شديد التعقيد. نحن نعيش كارثة وطنية وإقليمية ودولية اتخذت من الوطن السوري مسرحاً لها. كلما جلست لمناقشة الشأن السوري واحتمالاته، تجد نفسك تتحدث في التنجيم أكثر مما تتحدث في السياسة. المعطيات ــ على قلتها ــ متغيرة جداً. قبل الدخول العسكري الروسي كنا في حال، وبتنا بعده في حال آخر. هذا ينسحب على الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، حيث تباعدت بعده المسافات مع الحليف الأميركي، وتقلصت جداً مع عدو الأمس الروسي. ثم دخل على السياق فصل جديد هو نجاح ترامب. لذلك ما نستنتجه اليوم يقيناً قد يصبح في اليوم التالي وهماً. سوريا أصبحت أشبه بفجوة سوداء تبتلع كل شيء وتحرق كل التوقعات. الحديث عن التقسيم بمسميات مختلفة ــ مع الأسف ــ أصبح حديثاً روتينياً عادياً. التدخل الخارجي، لا السياسي فقط بل العسكري أيضاً، لم يعد خبراً صادماً ولم يعد حكراً على أحد. المسؤولون العسكريون والأمنيون من دول مختلفة يجتمعون للتنسيق كي لا يصطدم هذا بذاك خطأً. هناك معلومات عن دول تنشئ قواعد عسكرية على الأرض السورية وكأنها أرض مشاع، ودول تصدر مقاتليها أو مقاتلين تستأجرهم وكأنها تصدر مبيدات، أو أسمدة أو أي سلعة أخرى. الشرخ الطائفي أصبح عميقاً، وتحوّل إلى حديث عادي كأي حديث آخر، ولم يعد حكراً على بسطاء حُرموا نعمة التعليم، بل أصبح دارجاً على لسان الشرائح المتعلمة أيضاً. التمترس والتخندق وصمّ الآذان صارت ديدن كثير من السوريين. أي تفكير خارج الصندوق يستدعي كماً هائلاً من العنف اللغوي وتُستنفر ضده كل أصابع الاتهام. في مناخ كهذا يصعب التفكير والجهر بالأفكار. ومع ذلك، علينا أن نكون وطنيين، وأن نفكر في حلول قابلة للحياة ولديها القدرة على إنقاذ هذا الوطن. والحل الذي نريد له هذه الصفات لا بد أن يكون عادلاً ومستجيباً لمطالب الشعب السوري في دولة ديمقراطية مدنية تعددية تضع قطيعة مع الاستبداد بكل أشكاله، وهذا يستدعي الخلاص من الخرافة التي يتم الترويج لها بشدة وهي أن «البديل سيكون حتماً إسلامياً متشدداً».

ــ لكن البعض يرى الأمر كذلك فعلاً.
نعم وبعض من هذا البعض أوجد الغول من أجل هذا اليوم. اليوم الذي نقول فيه للناس اختاروا بين النظام القائم والحكم التكفيري المحتمل. هذه المعادلة تم تصنيعها في سوريا خلال السنوات الخمس التي انقضت وأُحرِقت في الجحيم السوري، اشتركت أطراف كثيرة في صنعها. لكن ذلك لن يجعلني كسوري لا أنظر إلى الجهة الأخرى، إلى غد مختلف تكون فيه سوريا دولة ديمقراطية مدنية لكل السوريين على اختلاف مشاربهم وأعراقهم ومعتقداتهم. أنا مؤمن بأن الحل العادل سيعيد تشكيل الاصطفاف في الداخل السوري وسيجفف المستنقع الذي نمت فيه كل المظاهر العنفية اللاوطنية، ونما فيه كل هذا الغلو والتشدد.

ــ وهل السوريون ــ نظاماً ومعارضة ــ قادرون على الوصول إلى حل كهذا؟
بألم وخجل أقول لا. كنت أتمنى لو كان بمقدوري أن أعطي جواباً معاكساً. بعد خمس سنوات من الحرب الضروس ونصف مليون ضحية، وبعد مخيمات يعيش فيها ملايين السوريين، وبعد مئات آلاف الأطفال بلا تعليم وبلا أي من مقومات الحياة المحترمة، وبعد كل هذه الطائفية والكراهية للآخر، لم يبق في يدنا (نظاماً ومعارضةً) إلا قليل القليل. بلدنا ودمنا ساحة صراعات كبرى تتعلق بشكل النظام العالمي الجديد، ومتوسطة تتعلق بترتيبات القوى في الشرق الأوسط، وصغرى تنتهي عند من يحق له تعفيش هذا الشارع أو ذاك. لذلك لا بد من اتفاق دولي ترعاه أميركا وروسيا.

ــ وهل يكفي التوافق الأميركي الروسي ــ في حال حدوثه ــ ليضعنا في بداية الطريق؟
طبعاً لا يكفي، ولكنه بوابة دخول. كل الأطراف ستعدّ للعشرة قبل أن تحاول تحدي تلك البوابة. كل الأطراف الفاعلة يجب أن تأتي إلى الطاولة وتلتزم بالاتفاق. ويجب أن يكون هناك آليات قانونية لهذا الالتزام. عندها قد يكون التقارب التركي الروسي ــ على سبيل المثال ــ مفيداً لسوريا. لننتظر ونرَ ما سيقول بوتين لترامب وكيف سيترجم ترامب رغبته في التعاون مع روسيا، وكيف سيترجم الروس ما كرَّروه دائماً عن أن ما يهمهم هو سوريا والشعب السوري وليس الأشخاص، آخذين بعين الاعتبار أن سوريا لن تكون كل الحديث بينهما، بل جزءاً منه. ملفات البلدين العالقه كثيرة ومتشابكة تتجاوز سوريا. ما نشهده اليوم هو مخاض مؤلم لتشكيل المشهد العالمي الجديد.

ــ في حال نجح الجيش السوري في حسم معركة حلب لمصلحته، ما تأثير ذلك برأيك على المسارات السياسية؟ وهل ترون تناقضاً في مساندة موسكو للقوات السورية في حلب وحديثها المستمر عن حلول سياسية؟

النجاح لن يكون للنظام وحده، بل أيضاً لحلفائه الذين لم يبخلوا إطلاقاً في تقديم كل مساعدة ممكنة لذلك. موضوعياً، الكلمة ليست له وحده. في هذا السياق نستطيع القول إن ما ينطبق على المعارضة ينطبق أيضاً على النظام. النظام يعرف أكثر منّا أن لا أحد يقدم المساعدة لوجه الله. وإذا نسي أو تناسى فمن السهل على الطرف صاحب المساعدة أن يُذكّره، ولم يعد يجد حرجاً في ذلك، وهذا تمّ في غير مناسبة. السؤال الأهم هو ماذا يريد الروس؟ هم يعون بلا شك أن كلفة الدخول إلى سوريا كبيرة، ولا شك في أنهم يوازنون بين الأهداف ــ وليس الهدف ــ وهذه الكلفة الضخمة. هم في الحقيقة يدافعون عن أنفسهم بالدرجة الأولى، ويعيدون تقديم ذاتهم كروسيا العظمى بعد أن اندحر الاتحاد السوفياتي العظيم. إنهم يريدون المقعد الدولي ذاته. لو حلّلنا الشرائط الإخبارية التي تنشرها وزارة الدفاع الروسية عن العمليات العسكرية في سوريا، فسنجد أنها تتجاوز كونها شريطاً إخبارياً وتصل إلى حدود الفيلم الدعائي الترويجي لضراوة قوتهم ولصناعتهم الحربية، ويبحثون عن خوف يلقونه في قلوب خصومهم، بمن فيهم المستترون أو المحتملون، وعن إغراء الزبائن كي يستردوا ثقتهم بالتكنولوجيا الحربية الروسية. هذا ما فعلته أميركا في حرب الخليج حين قدمت لنا الطائرة الشبح وصاروخ توماهوك بالطريقة الدعائية ذاتها التي تقدم فيها شركات الهواتف الذكية والحاسبات المتطورة آخر ابتكاراتها. هناك رأي شائع مفاده أن الأميركان أرادوا للروس أن يتورطوا في سوريا، لتكرار سيناريو أفغانستان، وهو رأي لا يجوز تجاهله، لكن هل سيترك الروس أنفسهم فريسة للمكيدة؟ ربما. وربما ــ رغم كل ما يرتكبونه من عنف في سوريا ــ ما زال في جعبتهم كلام سياسي لم يقولوه بعد. كانوا في انتظار نتائج الانتخابات الأميركية، وآمالهم ترنو الى رجل يستطيعون إجراء حوار معه، وها هو الرجل الذي يفضلونه سيتسلم قريباً مفاتيح البيت الأبيض ومعها الشيفرة النووية.

ـــ بين الانعقاد الأول لمنصة القاهرة واليوم، تغيرت ظروف كثيرة، ومنها ما يتعلق بأعضاء المنصة أنفسهم؛ ارتبط بعضهم بمشاريع معارضة أخرى، وانزوى بعضهم. إلى أي مدى ترون أن المنصة ما زالت قادرة على التأثير في أي مسار تفاوضي في ظل هذه التغيرات؟
نحن نعيش كارثة وطنية وإقليمية ودولية اتخذت من الوطن السوري مسرحاً لها

نعم تغيرت الظروف وتسلل اليأس إلى قلوبنا، وبعضنا بحث عن نوافذ أخرى، ولكن الأكثرية، وأنا منهم، ما زالت تعتقد أن وثائق القاهرة، وهي الأهم، ما زالت فعالة وفيها تصور وطني متكامل ومتّسق مع تفاهمات جنيف وفيينا وقرارات مجلس الأمن، وأدّعي أنه لو أتيحت لها الفرصة فستستقطب أغلبية سورية حولها. يجب أن نعترف بأن حفاظ المعارضة المدنية المستقلة على كيانها وحضورها أمر شديد الصعوبة، لأنك أعزل في ساحة معركة مستعرة. أنت مجرد فكرة في مواجهة تسونامي مدمر. كنتُ من الذين مثلوا مؤتمر القاهرة في عدة اجتماعات مع عدد كبير من الجهات الدولية كي نقول لهم: في سوريا هناك معارضة مدنية لا تتبع دولة بعينها ولا تأتمر بأوامر أحد ولديها مشروع وطني جامع. كنا نفاجأ في كثير من هذه الاجتماعات ــ لا كلها طبعاً ــ بتركيز الطرف الآخر على مسائل فرعية، وعلى محاولة استنتاج من يقف خلفنا وعن أي قوة إقليمية أو دولية نعبّر، وما غاية هذه الدولة أو تلك من دعمنا، أكثر من تركيزه على مضمون رؤيتنا. مع ذلك أنا مؤمن بأن ساعة الحل إذا أزفت فستتكفل بعودة المجتمع الدولي إلى ما أنتجناه وأنتجه غيرنا من المعارضة الوطنية من وثائق، لتكون ركيزة لحل وطني جامع يرضي غالبية السوريين.

ــ غالبية السوريين لا كلهم؟
نعم غالبية السوريين لا كلهم. لن يوجد حل يرضي شخصاً مشروعه عابر لحدود الوطن السوري، ولا يوجد حل يرضي شخصاً منحته الحرب قيمة وعزوة و جاهاً، إلا استمرارها.


ــ تداولت بعض وسائل الإعلام خبراً مفاده أن «مؤتمراً وطنياً سيلتئم في دمشق وأنك أحد المشاركين فيه»، ما تعليقك؟
سمعت بالخبر كما سمع غيري، من الإعلام. الفكرة ليست جديدة. لقد سبق أن عُقد في تموز ٢٠١١ مؤتمر برئاسة نائب الرئيس (حينها) الأستاذ فاروق الشرع، ولكن سرعان ما تم الانقلاب على التوصيات التي صدرت عنه، وأُطلقت حملة شعواء استهدفت الشرع شخصياً وشككت حتى في وطنيته، ما خلق انطباعاً بأن مؤتمرات كهذه لا نفع لها، وتوصياتها أو مقرراتها لا تساوي الورق الذي كُتبت عليه. وطبعاً هذا أدى الى تهميش السياسي المدني لمصلحة العسكرة والعنف، وارتفعت الأصوات التي تنادي بالحسم العسكري الذي أورثنا، من دون أن يتحقق، دماراً مرعباً ومأساة تاريخية. اليوم، وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه وأصبح أمرنا في أيدي الآخرين، فإن الدعوة إلى مؤتمر كهذا يجب أن تتم دراستها بشكل تفصيلي، لأن فشلها سيعني مزيداً من الدماء والدمار والانقسام واليأس. من هذا المنطلق لا بدّ من وجود ضمانات دولية وإقليمية ملزمة لكل الأطراف، ولا بد قبل كل شيء من الإجابة عن أسئلة جوهرية لضمان النجاح. ما هي الغاية المنشودة من المؤتمر، هل هي تحقيق تفاهمات جنيف، أم أن عناوين أخرى ستبرز؟ من هي الجهة الداعية؟ من هي الجهة الراعية؟ من هم المشاركون وما معايير دعوتهم ومن سيضع تلك المعايير؟ ما هو جدول الأعمال؟ هل ما سينتج من المؤتمر من قرارات ملزم لكل الأطراف؟ وما هي آليات الإلزام؟ لقد سبق للتيار الوطني الديمقراطي أن صاغ تصوراً حول ذلك في نيسان ٢٠١٥ وتم تداوله إعلامياً بشكل محدود، ولكننا ارتأينا أنه ما دام الجميع يتحدث عن جنيف 2 وجنيف٣، فإن التوقيت ليس في مصلحة مقترحنا. أما اليوم، وقد توقف الجميع عن ذكر جنيف، فإذا كانت هناك رغبة حقيقية في إنجاز حل سياسي عادل، فإن آليات تحقيق ذلك والرؤية الواضحة والمخلصة تصبح أهم من المكان، على ما لدمشق طبعاً من قيمة رمزية لكل سوري مخلص.