كان عمرها شهرين فقط حين غاب والدها. وحين طُلب إليها اليوم، وقد تجاوزت السنتين ونصف السنة، أن تقدّم وردة لأبيها العائد، ما كان منها إلا أن رمت الوردة أرضاً، وهربت. مشهدٌ مؤلم عاشه ابراهيم ندّاف، لحظة وصوله إلى عائلته التي لا تزال مذهولة، بعدما اقتنعت، طوال الفترة الماضية، بأنّها فقدته إلى الأبد، وبأنّه بات شهيداً.
أبناء ابراهيم الثلاثة، علي وحيدر ونتالي، صدمتهم هيئة والدهم بلحيته الكثة، وعظامه البارزة. وفيما هربت نتالي، فإن حيدر (8 سنوات)، غالب خجله واندفع نحو أبيه ليضمّه، فيما حافظ علي (10 سنوات)، على تماسكه... هو الذي ورث صلابة أبيه.
أمام بيت قروي بسيط في قرية ربيعة، في ريف حماة، كانت عائلة الشرطي ابراهيم نداف تنتظره، وسط حشد من أهالي القرية، وشكّ يخيّم على الجميع من حقيقة العودة. فالاتصال الذي تلقاه والد ابراهيم، وأبلغ فيه أنّ ولده لا يزال على قيد الحياة، وأنّه كان أسيراً، منذ سنتين ونصف سنة، لدى المسلحين في مدينة الرّقة، وقد جرى تحريره بموجب تفاوض، لا يزال بالنسبة للجميع موضع تساؤل، ما جعل الانتظار محفوفاً بالخوف من تكرار الفاجعة.
ثلاثون شهراً من الانتظار والبحث واليأس. جلطتان، غير قاتلتين، أصابتا أبا إبراهيم، تركتاه بجسد منهك ولسان ثقيل، هو الذي يقاتل أبناؤه الذكور، السبعة، في صفوف الجيش السوري، والدفاع الوطني، والذي دفن، منذ سنوات قليلة، ابناً خطفه مرض قاتل. لم يكن مستعداً لدفن ابن آخر، ولا سيما الأثير إلى قلبه، ابراهيم، الذي يحمل اسم جده، ويشبهه وجهاً وروحاً. غياب اليقين حول استشهاد ابراهيم أو بقائه حيّاً، كان بمثابة ضربة مخلب في قلب الأب. فباستثناء مقاطع فيديو، عرضها المسلحون، ويظهر فيها بين رفاقه الأسرى، لم يكن ثمّة معلومات مؤكدة حول مصير ابراهيم.
«ابراهيم كان يخدم في اللاذقية وطلع مهمّة عالرقة، وهناك حوصر في فرع السياسية.

يشير ابراهيم إلى
إصبع قدمه المبتور ويشرح وسائل التعذيب التي مورست بحقه
وخلال 4 أيام سيطرت داعش ع المدينة، وما عاد عرفنا عنه شي. ما خلينا طريقة لنعرف وينو ما قدرنا، وبعد مرور كل هالشهور، كنا متأكدين إنو المسلحين ما رح يحتفظوا بالأسرى طول ها المدة. واعتبرناه شهيد»، يقول مضر، شقيق إبراهيم، شارحاً، في حديثه لـ«الأخبار»، حكاية تحرير أخيه.
ويضيف: «وصلنا خبر إنو إبراهيم لسه عايش، وبعد التفاوض مع المسلحين، أطلقوه مقابل فدية. فكرنا حالنا عم نحلم، لأن رجعته لا كانت ع البال ولا ع الخاطر».
الاستقبال كان مبللاً بالدموع. والده أطلق العنان لعينيه، فبللت دموعه الغالية لحية الابن، العائد من الموت. الأمّ، لدى رؤيتها له، سقطت أرضاً، لتتشارك وإياه دموع أيام الغياب الطويلة. «فرحتي برجعة ابني ما بتنوصف، انهد حيلي، ووقعت ع الأرض. وهو وقع قدامي وصرنا نبكي. رجعته كانت كلها بكي، الضيعة كلها صارت تبكي»، تقول.
«انقهرت روحي لما شفته ضعفان وصاير متل الخيال، وما قادر يوقف ع رجليه»، تصيف.
هو قهر تضاعف حين تسنّى للأمّ، لاحقاً، التمعّن بجسد ولدها، لتكتشف أظافر مقلوعة، وإصبعاً مفقوداً، ومساحات من جلده مسلوخة عن العظم.
التزم ابراهيم، بعد عودته، الصّمت لأيّام، رافضاً الحديث عن تجربة الأسر المريرة، لكنّه خرج أخيراً عن صمته، ليتحدّث إلى «الأخبار» عن ثلاثين شهراً أمضاها في مغارة في جبل الزاوية في ريف إدلب، فقد خلالها إحساسه بالزمن، وبنفسه، بعدما بات اسمه «النصيري». «الاسم الذي كان يطلقه مسلحو «جبهة النصرة» على جميع من كانوا في الأسر»، يقول.
ويتابع: «كنا 15 شخصاً من طرطوس واللاذقية وحماة، قتلوا 2 قدام عيونا. قوصوهم بالرصاص. وكنا ناطرين دورنا، وكل يوم نفكر إنه يومنا الأخير، وكل واحد منا كان عم يفكر بعيلته وبأولاده، وعم يدعي ربه يرجع مشانهم». ويضيف إبراهيم، شارحاً تفاصيل اليوم الذي كان يتكرر على مدى سنتين ونصف سنة، فيقول: «كانوا يصحونا الساعة 4 الصبح لنصلي الفجر، وبعدها نقضي اليوم بحفر الأنفاق والخنادق وبالتعذيب. وطبعا كل ما حان وقت صلاة ينادولنا، ونصلي مع يلي كانو قبل شوي عم يعذبونا بأبشع الوسائل، لمجرد أننا، على حد تعبيرهم، نصيرية». يشير ابراهيم إلى إصبع قدمه المبتور، شارحاً، بصوت مخنوق، وسائل التعذيب التي مورست بحقه، هو ورفاقه: «من كتر الضرب بالكرباج راح اللحم عن جلدي، وبلش يصير بأصابع رجلي غرغرينا، فجابولي طبيب، بترلي إصبع منهم. كان بدهم نضل لا عايشين ولا ميتين، وكانوا يتفننوا بتعذيبنا، ويتناوبوا علينا. معاهم جهاز كهربا، يحطوه ع جسم الواحد مننا، فيتكهرب ويصير يرجف، وينهدّ حيله. ويحرقونا بأسياخ محماية بالنار، ويضلوا يضربونا بالكرباج لينهد حيلهم».
ابراهيم، الذي حصل على لقب الشهيد الحيّ، يجد اليوم صعوبة في تناول طعامه، بعدما صغرت معدته، نتيجة سياسة التجويع التي اتبعها آسروه. «كانوا يتبعون سياسة قوت لا تموت. شي نضل عايشين، يطعمونا مرتين باليوم، نص خبزة، كمشة برغل، أو رز، أو معكرونة». ويختم ابراهيم حديثه بالقول: «الحمدلله كان إلي عمر شوف عيالي وأهلي. وولدت من جديد. لكن قلبي حزين ع رفاقي، يلي ضلوا مع المسلحين، ومقهور على بلدي وعلى كل شي صار فيها. وما رح قول غير الله أكبر على كل مين مدّ يدّه بالخراب لهالبلاد».