حلب | ليست معركة «فتح حلب» شبيهةً بكل ما سبقها في الحرب السورية. لا ينبع ذلك من الثقل المعنوي الاستثنائي للمدينة فحسب، إذ تضاف إلى ذلك عوامل أخرى كثيرة يتداخل فيها السياسي بالعسكري والاقتصادي، والمحلّي بالإقليمي والدولي. ولا يبدو غريباً أن مواعيد كثيرة حُدّدت - على امتداد الحرب - للساعة الصفر لسيطرة المجموعات المسلّحة على المدينة. وتقابلها مواعيد أخرى لإحكام طوق الجيش وحلفائه، ومن دون أن يُحقق أيّ من الطرفين أهدافه بعد.
آخر المواعيد المضروبة في هذا السياق كانت مضبوطةً على ساعة المجموعات وداعميها. بدأ التخطيط الفعلي للمعركة في آذار الماضي. كان لا بدّ من توافقٍ تركي، سعودي، قطري على التفاصيل. عُقدت اجتماعاتٌ ومحادثاتٌ كثيرة بغية الوصول إلى أجندة مشتركة تتجاوز التوافق على الأهداف إلى التوافق على الأدوات والآليات. وتوّجت المُجريات بإقرار الخطّة خلال اجتماع ثلاثي نهائي في هذا الشأن عُقد في العشرين من آذار. أخذت المحادثات بين الأطراف الثلاثة شكل التخطيط لانعطافة مفصليّة في مسار الحرب. لم تكن النتائج المتوخّاة مقتصرةً على بسط سيطرة المجموعات على كامل محافظة حلب (مع تشديد الحصار الخانق على نبّل والزهراء) بل تتجاوزها إلى إفساح الطريق أمام «الائتلاف» المعارض و«الحكومة المؤقتة» للقبض على بقعة جغرافيّة فائقة الأهميّة، وتصلحُ لإعلانها «عاصمةً مؤقتة» في مرحلة تالية. وفي سبيل هذه النتائج أخذت المخططات في عين الاعتبار هواجس غربيّة (فرنسية على وجه الخصوص) تتعلّق بمسيحيي حلب. وأخرى تُعنى بالرأي العام الدولي تتعلّق بطريقة بسط السيطرة وطبيعة المجموعات «الفاتحة»، وشكل وسرعة فرض آليات لإدارة «المدينة المحرّرة». تؤكد مصادر «الأخبار» أنّ النقاشات لم تُغفل أدقّ التفاصيل، بدءاً من اسم المعركة الذي رغبت أنقرة في أن يكون «معركة الفاتح»، تيّمناً بالسلطان العثماني، وفضّلته السعودية «فتح حلب» تيمّناً بـ«فتح مكّة». أمّا موعد بدء العملية فلم يكن محلّ خلاف كبير، إذ توافقت الرغبتان على أهميّة شهر رمضان. وفضّل السعوديّون بدء المعركة مع ثبوت رؤية الهلال في السعوديّة، مقابل تفضيل تركي لأن تنطلق قبل ذلك، وبالتزامن مع ذكرى «فتح القسطنطينيّة» (يوافق 29 أيار)، وأمل بالإفادة من نجاح «الفتح» في اكتساح حزب العدالة والتنمية للانتخابات. ورأى الأتراك أن هذا الموعد يُتيح «احتفالاً رسميّاً بالتحرير» في أول أيام رمضان. أمّا الدوحة، فتؤكد مصادر «الأخبار» أنها كانت مؤيدة لكل ما يتوافق عليه السعوديون والأتراك، ولم تسعَ إلى فرض أي شرط خاص وخاصةً أن الخطة اقتضت خروج لاعبها المفضل «جبهة النصرة» من المشهد الحلبي في مقابل ضمان انفرادها وحلفائها «الجهاديين» بإدلب لاحقاً.


إدارة تركيّة صارمة

تسلّمت أنقرة عمليات الإشراف على تنفيذ بنود المخطط، بدءاً من معركة إدلب وما تضمنّته من فتح الحدود أمام «الجهاديين» عديداً وعتاداً. وحمل السعوديون والقطريون على عاتقهم التمويل بالأسلحة النوعيّة. كان لا بدّ من إعادة هيكلة المجموعات في حلب وريفها، بما يحقق شرط استبعاد «الجهاديين» (للأسباب السابقة)، كما استبعاد الرؤوس المحسوبة على جماعة الإخوان، تلبيةً للرّغبة السعودية. وهو ما كان قائماً على أرض الواقع قبل التوافق على كل بنود «فتح حلب». تشكلت «غرفة عمليات فتح حلب» من معظم المجموعات غير الموصومة علناً بـ«النهج الجهاديّ».

تسلّمت أنقرة عمليات الإشراف على تنفيذ بنود المخطط
وبإدارة تركية مباشرة، وشروط صارمة. «كان الهدف الأساسي منع حدوث أي انفلات أمني بعد نجاح الفتح»، وفقاً لمصدر من قياديي الصف الثاني في إحدى المجموعات المنضوية في «غرفة العمليات». ويشرح المصدر لـ«الأخبار» بعضاً من الشروط التركيّة التي نقلها القادة إلى مجموعاتهم. وعلى رأسها «عدم الاعتراض على أيّ إجراء تقتضيه عمليات إعادة الهيكلة»، و«التزام المقاتلين بالمخططات العسكرية بدقّة متناهية، بما في ذلك تنفيذ إعادة انتشار في محيط المناطق التي تتم السيطرة عليها، وتحاشي الاحتكاك المباشر بالمدنيين، ومغادرة الأحياء فور استتباب السيطرة»، كما رفضَ الأتراك والسعوديون طلباً توافقت عليه معظم المجموعات المشاركة في «الغرفة» بضرورة «مشاركة عدد من انغماسيي جبهة النصرة، وجبهة أنصار الدين في بداية المعارك»، وخاصةً أنّ «قيادة النصرة» طالبت بحقّها في التمركز في المناطق التي تساهم في السيطرة عليها، وهو مطلبٌ دعمَه القطريون بشدّة.


المخطط العسكري

رُبطت كل «المجموعات» المنتشرة في أحياء حلب ومحيطها بعضها ببعض، بواسطة غرف تنسيق محليّة، ترتبط بـ«غرفة فتح حلب». وتقع على عاتق كلّ مجموعة مهمّة محدّدة، ينبغي لها التزامها وعدم الارتجال تحت أي ظرف. أولى خطوات المعركة كانت تتطلّب استباق الساعة الصفر بشن عمليات ترمي إلى إغلاق الطريق الجنوبي إلى المدينة، (المعروف باسم طريق خناصر). على أن يجري ذلك انطلاقاً من المدينة إلى خارجها لا العكس (أي إغلاق منطقة الراموسة، نقطة التماس المباشر بين الطريق ومدينة حلب) وبالاعتماد على غطاء ناري كثيف يوفّره قنّاصون محترفون، وكتائب متخصصة في صواريخ «تاو» لتحييد الدبابات. ليبدأ الهجوم بعدها على كل الجبهات داخل المدينة في لحظة واحدة. ويترافقُ ذلك مع إعلان «التعبئة العامة» في كل مناطق ريف حلب الخاضعة للمجموعات. وتحوي هذه المناطق أعدادً كبيرةً من «الاحتياطيين»، من داخل المجموعات وخارجها. ووفقاً لمصادر «الأخبار» فقد جرى تجنيد هؤلاء على مراحل، وبشكل استباقي، مع تدريب على الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، بحيث «يضم برنامج التعبئة كلّ قادر على حمل السلاح، ولا يرغب في الرّباط بشكل دائم». ويتعيّن على «المعبّئين تلبية النداء، ووضع أنفسهم تحت تصرّف قادة مجموعات التنسيق فور إعلان التعبئة». وكانت الخطة تقضي بأنّه «فور السيطرة على الأحياء يتم إخلاؤها للهيئات الشرطيّة». وهي مجموعاتٌ قوامُها «حوالى 1000 شرطي مدني مُجهّزين ومدرّبين في تركيّا على التعامل مع المدنيين. وتتولى الهيئات ضبط الأمن وبسط السيطرة». كما لحظ المخطط «تولّي عناصر الهيئات المدنية إدارة المرافق الخدمية والمنشآت الحيوية والإدارات العامة على الفور، مثل: الجامعة، السجل العقاري، شركتي الكهرباء والمياه... إلخ». لم تكن هذه «الهيئات» في حاجة إلى التشكيل، إذ يتوافر الكثير منها في المناطق الخاضعة للمجموعات المسلحة. يتبع بعضها لـ«الائتلاف»، وبعضها الآخر لمجموعات مسلّحة كانت تحرص منذ تشكيلها على وجود مثل تلك الهيئات (ومنها «حركة نور الدين زنكي»).


لا نزوح... وحظرٌ جوي

كان الشرط التركي الأهم منع حدوث أي عملية نزوح. وردّ قادة المجموعات المشاركة في «الغرفة» بأنّ «النزوح أمرٌ خارجٌ عن نطاق السيطرة ومنعه شبه مستحيل». يدفعهم إلى ذلك يقينهم بأنّ «الطيران سيطلق العنان للبراميل المتفجّرة، ما سيجبر المدنيين على محاولة النزوح مهما كلّف الأمر». وتخوّف هؤلاء من أن يؤدي ذلك إلى «صدامات مع المدنيين». جاء الجواب التركي مُطمئناً: «كل شيء مدروس بعناية، وفي اللحظة المناسبة ستُعلَن منطقة حظر جوي». وهو الأمر الذي بدأ الترويج له إعلاميّاً مع اقتراب الموعد المحدّد، كما روّجت أنباء عن أنّ عديد المقاتلين يقارب 20 ألف مقاتل مرشحٍ للزيادة إضافة إلى أنباء عن بدء الدولة السورية إجراءات تُمهد للتخلي عن حلب. وكان المأمول من الحرب النفسيّة أن تؤدي إلى تعزيز معنويات المسلّحين، وتقويض معنويات القوات السورية الرديفة على وجه التحديد (الدفاع الوطني، واللجان، ولواء القدس... إلخ) ما يُسهل كسرها سريعاً، ويؤدي إلى انسحاب سريع للجيش السوري وحلفائه من المدينة.


حسم سياسي «مؤقت» للمعركة؟

وفقاً للمعلومات المتقاطعة التي حصلت عليها «الأخبار» فقد «أدّى الخذلان الغربي إلى تأجيل المعركة». وبرغم عدم وجود معلومات دقيقة عمّا دار وراء الأبواب المغلقة وفي دهاليز السياسة، غير أن المرجّح أنّ تداخلات ورسائل سياسيّة أدّت في نهاية المطاف إلى وضع الولايات المتحدة حدّاً لطموحات المثلث الإقليمي بـ «الحظر الجوي» الذي كان حجرَ زاويةٍ في مخطط «الفتح». الأسباب السياسية ذاتها أدّت إلى تعليق العملية، وخاصة في ظل مستجدات الداخل التركي الانتخابية، ليمسي أقصى ما يمكن أن تشهده جبهة حلب راهناً محاولات لفتح معارك استنزاف هنا وهناك.




«فتح إدلب» جزء من المخطط

في واقع الأمر كانت معركة إدلب أشبه بتمهيد لمعركة حلب، حيث ضمنت المخططات أن يؤدي إنشاء «جيش الفتح» في إدلب دور المغناطيس في اجتذاب «الجهاديين» وتفريغ جبهات حلب من أكبر عدد ممكنٍ منهم. ويرجع ذلك إلى أن خطة حلب كانت تقوم أساساً على عدم مشاركة «الجهاديين» لأسباب عدّة. كذلك، كانت الخطوة التالية لـ«الفتح» التي يأمل المخططون حدوثها هي انتقال «الحكومة المؤقتة» و«الائتلاف» إلى حلب، ومسارعة عدد من الدول الداعمة إلى الاعتراف بمرحلة جديدة. وهو أمرٌ لا يمكن ضمانه في حال دخول «الجهاديين» على الخط. كذلك؛ ضمنت الانتصارات التي حقّقها «جيش الفتح» في إدلب زخماً معنويّاً كبيراً للمجموعات المسلّحة وداعميها، ولمهندسي «فتح حلب»، في مقابل أثر نفسي معاكس لدى الجيش السوري والقوات الرديفة، والرأي العام المؤيّد.