نابلس | ما إن تأخذك قدماك إلى شرقي مدينة نابلس، حتى تصل قلب بلدة بيت فوريك الواقعة على بُعد ستة كيلومترات من المدينة، وإذا واصلت التقدم ثلاثة كيلومترات أخرى من البلدة إلى جهة الشرق فلن تلحظ سوى تضاريس وعرة وحياة برية خالية وطريق مهجورة تكاد تكون غير واضحة المعالم؛ لولا وجود آثار الأقدام التي حفرت تلك الطريق مع تقدم السنين وتكرار المسير. يمكن أن تشاهد بسهولة صفائح «الزينكو» المتناثرة ومئات الرؤوس من قطعان الماشية تتنقل في البرّية، لكن لا أعمدة للكهرباء ولا اتصالات.
تتقدم شيئاً فشيئاً لتلمح عيناك أول وجودٍ بشري في المكان: عجوزٌ تحلب بقرة بالطرق البدائية، وأطفالٌ يلهون في الطبيعة، وبناءٌ قديم وحيدٌ من الطين والحجارة. ليس بعيداً عنك، يوجد مبنى من الصفيح المطلي باللونين الأزرق والأبيض؛ أنت الآن وسط خربة طانا، حيث تدور معركة إرادات مع الاحتلال الإسرائيلي.
فجأة، يلوّح أحد الأطفال بيديه صارخاً: «هاي المدرسة». هذا الطفل اعتاد قدوم بعض الأجانب والناشطين خلال الأيام القليلة الماضية، بعدما صدر بحق مدرسة الخربة قرارٌ غير معلنٍ بهدمها، وذلك للمرة السابعة منذ إنشائها قبل نحو أحد عشر عاماً، مع أنه لا يجلس على مقاعد الدراسة فيها سوى نحو 25 تلميذاً. ووفقاً للسكان، فإن ما تُسمى «الإدارة المدنية الإسرائيلية» صوّرت مبنى المدرسة بحماية قوات الاحتلال قبل أيام، وفي عُرف سكان طانا، أن هذه الخطوة تعني إدراجها على لائحة الهدم لاحقاً في أي لحظة.
الهدم الأخير للمدرسة كان في آذار الماضي، ما دفع التلاميذ إلى الدراسة في مسجد طانا أو «بيت الشيخ»، وهو البيت اليتيم الموجود في الخربة ولم تمسّه نار الاستيطان، لأنه أثري وتم تشييده قبيل قدوم الاحتلال عام 1967، ويستعمل أيضاً مخزناً للشتول والأدوات الزراعية، وبعد ذلك عاد التلاميذ إلى المدرسة الحالية ذات الصفيح، التي أقيمت بدعم من الاتحاد الأوروبي.
في المرات الست السابقة، كان كثيرون من تلامذة خربة طانا يضطرون إلى الذهاب إلى بلدة بيت فوريك القريبة ومدارس أخرى، وخاصة أنهم لا يشعرون بالأمان بسبب إجراء جنود العدو التدريب العسكري بقرب الخربة.
معاناة خربة طانا، التابعة لبلدة بيت فوريك مع الاحتلال، بدأت منذ بداية السبعينيات، بعدما صنّف الاحتلال أراضي الخربة كمنطقة إطلاق نار بغرض تدريبات عسكرية مغلقة يُمنع البناء فيها، وذلك وفقاً لقرار مباشر صدر عن وزير الجيش الإسرائيلي الأسبق إيجال ألون عام 1968، وهذا التصنيف يُعرف بخطة «ألون» الاستيطانية التي كانت تهدف إلى السيطرة على منطقة الأغوار كونها منطقة حيوية مع الحدود الأردنية، حيث وضع الاحتلال يده على آلاف الدونمات من أراضي الخربة لتوسيع المستوطنات المحيطة مثل «جفعات عوليم» و«ماخوراه».

تنقل التلامذة الـ 25 بين أكثر من 3 مدارس خلال سنة واحدة


من الجدير ذكره أن 18% من مجمل مساحة الضفة المحتلة تقع ضمن مناطق «إطلاق النار والتدريب»، وتؤثر بذلك في نحو 40 منطقة فلسطينية. جراء ذلك، يمتهن أهالي خربة طانا، وهم نحو مئتَي وخمسين نسمة، الزراعة وتربية المواشي كحرفتين أساسيتين. ويمتلك المزارعون نحو 8000 رأس ماشية، فيما تعيش في الخربة ثلاثون عائلة فلسطينية تقطن في بيوتٍ من صفائح «الزينكو» أو الخيام. وعند عمليات الهدم، تلتجئ هذه العائلات إلى الكهوف والمغاور هرباً من جرافات الموت الإسرائيلية.
كذلك، فإن وقوع المنطقة تحت تصنيف (ج) في اتفاق أوسلو، يزيد الطين بلة، فلا يمكن للمؤسسات الفلسطينية وحتى وزارة الخارجية العمل على وقف عمليات الهدم والتهجير، لذلك تقتصر الجهود على بعض المشاريع والأنشطة البسيطة، مثل: أدوات زراعية بسيطة، وعدسات للكهرباء الشمسية، والخيام وغيرها. أما المشروعات والأدوات الكبرى، فيمنع الاحتلال إدخالها كصهاريج المياه وشبكة الكهرباء والاتصالات.
أما المستوطنات القريبة، فلا تعكر صفو جمال الحياة البدائية لأهالي طانا فقط، بل إن المستوطنين ينغّصون على الأهالي معيشتهم، وهم تارةً يُضايقون الأهالي ويُلقون الحجارة على الخيام، وتارةً أخرى يسطون كقطاع الطرق على قطعان الماشية، فضلاً عن أنهم يعتمرون قبعات النجمة السداسية ويؤدون رقصاتهم وسط الظلام الدامس في الخربة.
ربما لن يُصدق أحد أن 25 طفلاً في هذه الخربة يصرّون على إكمال تعليمهم، ويتنقلون بين ثلاث مدارس خلال أقل من عام، ضمن مكان معزول لا تتوافر فيه أدنى الخدمات الأساسية، لكنهم كآبائهم وأجدادهم يحملون إرادة أصحاب الحق ويحاولون التشبث بما تبقى من أرضهم.