تثير الاحتفالات بـ«عيد يناير» 2967 (المسمّى خطأً عيد «رأس السنة» الأمازيغية)، التي تستمر من الحادي عشر حتى السادس عشر من كانون الثاني/يناير، جدلاً واسعاً في الجزائر.
فالكثير من المراقبين يطرحون تساؤلات حول الهجمة الإيديولوجية الجديدة التي أطلقتها وزيرة التربية الوطنية نورية بن غبريط، والموجهة، في نظرهم، ضد الأسس العربية الإسلامية لشخصية البلاد الثقافية؛ ففي تعليمات رسمية أُصدرت في الثامن من كانون الثاني/يناير، طلبت إدارات التعليم الوطني في الولايات الـ48 في البلاد من مسؤولي المدارس الجزائرية كافة تنظيم احتفالات بـ«عيد يناير»، كذلك طُلب من المعلّمين تخصيص حصص دراسية في الثاني عشر من الشهر الجاري لتعريف الطلاب بـ«عيد يناير» وأبعاده الهوياتية في الجزائر وفي سائر المناطق التي يسكنها الأمازيغ. ومن جهتها، استغلّت «جبهة القوى الاشتراكية»، وهي حزب بربري جزأري (والجزأرة تعني تياراً إيديولوجياً وسياسياً يجعل من التنوع الثقافي في الجزائر وقضية البربر ذريعة لتحدي الهوية العربية)، هذا القرار كفرصة للمطالبة بالاعتراف رسمياً بـ«عيد يناير» كعيد وطني.
ولا بد من الإشارة إلى أنه منذ وصول الوزيرة نورية بن غبريط إلى الحكومة في عام 2014، بات واضحاً أن مسألة الهوية في الحقل السياسي بدأت تتحول إلى مواجهة بين أنصار رؤيتين متناقضتين تجاه الجزائر: فالأولى قائمة على الإرث العربي الإسلامي للثورة الجزائرية، والثانية عمادها القومية الجزائرية وينادي بها التيار الفرنكو ــ أمازيغي الذي ينظر إلى الجزائر كمجموعة من الإثنيات المختلفة. وبعد تعديل النظام التعليمي بهدف الحد من هيمنة اللغة العربية لمصلحة ثنائية اللغتين الفرنسية والعربية، تبدو المطالبة بتكريس «عيد يناير» عيداً رسمياً بالنسبة إلى الفئة الأولى خطوة جديدة في استراتيجية النيل من الهوية العربية الإسلامية للبلاد وشرعيتها الموروثة من النضال الوطني نحو المساواة. ولفهم أسس وجهة النظر هذه، من المفيد التذكير بأن «عيد يناير» (المشتقة تسميته من الاسم اللاتيني لشهر يناير) لا علاقة له في الواقع بعيد «رأس السنة» الأمازيغية، بل إنه امتداد لعيد زراعي تعود جذوره إلى التراث اللاتيني الروماني الوثني والعربي الأندلسي، وهو مرتبط بالعادات الزراعية في هذه المنطقة التي كان لها تأثير كبير على المغرب العربي. لذا، بالنسبة إلى فئة من الجزائريين، فإن هذه الرغبة لدى أحد التيارات السياسية في الإعلاء من شأن «الهوية الأمازيغية»، عبر إشراك مختلف إدارات الدولة في تنظيم احتفالات «عيد يناير» تحت ذريعة احترام التنوع الثقافي في الجزائر، ليست سوى شكل جديد للاستراتيجية ذاتها الهادفة إلى النيل من الهوية الوطنية العربية والإسلامية للبلاد.

الأسس الإيديولوجية «للجزأرة» قائمة في الواقع على نظرة مزدوجة


إن الأسس الإيديولوجية للفكر «الجزأري» (الذي يطالب بأن تكون الجزائر «جزائرية»، بمعنى نفي الانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية) قائمة في الواقع على نظرة مزدوجة إلى البلاد: أولاً، ينظر أنصار هذا الفكر إلى الهوية العربية من منظور منحاز ومجتزأ كمجرد مجموعة إثنية شأنها شأن بقية المجموعات (البربر بجميع اختلافاتهم: القبايل والشاوية والطوارق، إلخ.). وثانياً، وهي النقطة الأهم، يتحدث هؤلاء عن الجذور الأمازيغية للجزائر كاستمرارية تاريخية، مفترضين أن الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع لم يمسّ بها، وبالتالي فإن رؤيتهم هذه تنمّ عن استشراق فادح؛ ففي أعين الكثير من الجزائريين، بما في ذلك مناطق ناطقة باللغة الأمازيغية (كجبال الأوراس ومنطقة القبائل)، ليس التيار القومي الأمازيغي المعاصر إلا نتاج سياسة «فرّق تسد» الاستعمارية الفرنسية القديمة. وقد سعى الاستعمار الفرنسي عبر هذه السياسة بالذات إلى استغلال التنوع الثقافي في الجزائر لفبركة «هوية أمازيغية» جديدة، مسلوخة بشكل مصطنع عن محيطها الحضاري العربي الإسلامي.
إنّ خطر ما سمّاه الأمين العام لـ«المحافظة السامية للأمازيغية» سي الهاشمي عصاد، في معرض حديثه عن أهمية الاعتراف بـ«عيد يناير» كعيد رسمي، «الصحوة الهوياتية» لدى «الجزائريين المتصالحين مع تاريخهم»، وهو تاريخ غني بتنوعه وتعدديته، يكمن في التشكيك المتزايد في المكانة المحورية للهوية العربية في الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري. لذا، فإنّ الوقاية من مساعي «الفصل الإثني» خدمة للمصالح السياسية تتطلب معرفة عميقة بتاريخ الحضارة العربية الإسلامية القيّمة في المغرب منذ 14 قرناً، وبالتنوع الإثني والديني، وبالجزائر في حقبة الاستعمار. فمنذ أيام عبد القادر الجزائري وصولاً إلى هواري بومدين مروراً بمصالي الحاج وعبد الحميد بن باديس، شكّلت الهوية العربية الإسلامية عاملاً ثقافياً محورياً في مقاومة الاستعمار. ولطالما كان الرجوع إلى هذا الإرث موجهاً ضد النخب المتغرّبة الموصومة بالعار لارتباطها بالاستعمار ولانتمائها إلى نهج المساومة ولانفصالها عن الشعب. كذلك اليوم، فإن النخب التي تحاول أن تجعل من الهوية الحضارية العربية والإسلامية أمراً نسبياً تحت شعار «التنوع» تعمل قبل أي شيء آخر وفقاً لأجنداتها السياسية الخاصة.