رغم المعارك الدامية التي اندلعت خلال الأيام الماضية بين «جبهة النصرة/ فتح الشام» من جهة ومعظم المجموعات المنتشرة في إدلب من جهة أخرى، غير أنّ بعض الأطراف ظلّت متمسّكة بأمل ظهور مبادرة ما تساهم في عقلنة المحتربين، وتسعى إلى احتواء الموقف. لكنّ تطورات أمس جاءت لتقطع الشكّ باليقين، وتقوّض فُرص العودة إلى الوراء.
المفارقة أنّ مسرح تلك التطورات لم يكن الميدان الذي لم تهدأ معاركه، بل وسائل الإعلام التي نقلت تصريحات تركيّة أشبه بـ«كلمة سر» موجّهة لأعداء «النصرة» الجدد: «حركة أحرار الشام الإسلاميّة» وحلفائها. ونقلت تقارير إعلاميّة متطابقة عن مصدر في وزارة الخارجية التركية قوله إنّ «أنقرة تعتبر كلّاً من تنظيمي «داعش» و«جبهة النصرة» (المعروف بـ«جبهة فتح الشام» حالياً) جماعتين إرهابيتين وتتصرف على هذا الأساس». وقال المصدر إنّ «الهجمات (في إدلب) ربما تحركها رغبة «جبهة النصرة» في منع التوصل إلى حل سياسي للصراع السوري». ورغم عدم فاعليّته ولا امتلاكه تأثيراً مباشراً على المجموعات المسلّحة، غير أنّ «الائتلاف السوري» المعارض لم يلبث أن تلقّف كلمة السر التركيّة وسارع إلى إصدار بيان يصف فيه أعمال «النصرة» بأنها إرهابيّة. وأعرب البيان عن «الإدانة المطلقة لأعمال الاعتداء والمسِّ بالمدنيين وحقوقهم، والتعرض للحريات العامة، وانتهاك حقوق الإنسان من قبل تنظيم «فتح الشام» ومن يساندونه»، كذلك أكّد أن «ذلك جزء من منظومة الإرهاب وسلوكه المرفوض، ويصبُّ في خدمة النظام وحلفائه المحتلين».

مؤشرات على تحوّل «حركة أحرار الشام»
إلى «الرابح الأكبر»
«الائتلاف» دعا «الفصائل الثورية والعسكرية إلى تبني المشروع الوطني الجامع بكل ما يمثله من قيم ومبادئ، والتأسيس لتشكيل جيش وطني سوري يخدم الثورة وأهدافها»، كما دعا «لتحالف دولي يرفض الإرهاب بكل أشكاله، الفكرية والطائفية والانفصالية، ويعمل على طرد كل التنظيمات الإرهابية من سوريا». ومن شأن هذه التطوّرات أن تدفع معظم المجموعات المسلّحة في الشمال السوري إلى القطع بشكل نهائي مع «النصرة»، نظراً إلى النفوذ التركي الكبير على تلك المجموعات، الأمر الذي يُنذر بتحول إدلب وريف حلب الغربي (المتصل بريف إدلب الشرقي) إلى ميدان لـ«حرب أهليّة جهاديّة» تستحضرُ سيناريو «الحرب الأولى» التي خاضتها المجموعات (وعلى رأسها «النصرة») ضد تنظيم «داعش» قبل حوالى ثلاث سنوات. ولا يبدو هذا التطوّر مفاجئاً، بل هو في واقع الأمر مُنتظر بعد أن استوفى معظم أسبابه منذ ما يزيد على عام، لكنّ انتفاء مصلحة الداعمين حينَها أسهم في احتواء الموقف وتأجيل «الساعة الصفر» إلى الوقت المناسب. («الأخبار»، العدد 2532). وتختلف «الحرب» الثانية عن سابقتها في كثير من النقاط، على رأسها أنّ رقعة المعارك ضد «داعش» كانت أوسع وشملت محافظات عدّة، ما سمح لـ«داعش» بالابتعاد عن ريفي حلب وإدلب وإعادة انتشاره في دير الزور والرقّة. ورغم ضراوة تلك النسخة، غير أنّها لم تنتهِ بتقويض وجود أحد أطرافها بشكل نهائي، بسبب وجود فرص لتنفيذ انسحابات ورسم خطوط تماس أشبه بـ«حدود». ولا يبدو هذا السيناريو متاحاً في النسخة الحاليّة، لأنّ معظم المحتربين يتوزعون السيطرة المتداخلة في نطاق جغرافي واحد. واستمرّت أمس عمليات الاصطفاف والتموضع على وقع المعارك العنيفة، في ظل مؤشرات على تحوّل «حركة أحرار الشام الإسلاميّة» إلى «الرابح الأكبر». وبعد أن شهدت المرحلة السابقة انخفاضاً في زخم قوّة «الحركة» من جرّاء حركة انشقاقات متتالية وضعتها على شفير التفكّك، تبدو أخيراً على وشك الظهور في مظهر «الفصيل الجامع»، بعد أن أعلن عدد من المجموعات انضمامه إليها خلال الأيّام الأخيرة. وجاءت تلك الانضمامات المتتالية تحت «غطاء شرعي» وفّره أكثر من عشرين «شرعيّاً وداعيةً من مبادرة أهل العلم في الشام» أعلنوا عن «مبادرة إنقاذ الشمال السوري»، وكان من أبرز الموقعين على المبادرة الشيخ أسامة الرفاعي، وأبو العباس الشامي (المعروف سابقاً بـ«أبو التوت» وأحد الآباء الروحيين لأحرار الشام)، وأبو بصير الطرطوسي (عبد المنعم حليمة، الذي لعب في العام الأول من عمر الحرب دور «مفتي الثورة السورية»)، وصالح الحموي (أحد المنشقين البارزين في مراحل سابقة عن صفوف «النصرة» والمعروف عبر «تويتر» باسم «أس الصراع في بلاد الشام»). ودعت المبادرة إلى «وحدة الصف والاندماج في جسم عسكري وسياسي واحد مع (حركة أحرار الشام)»، كذلك طالبت المبادرة «أحرار الشام» بـ«حماية من ينضم إليها والحفاظ على ثوابت الثورة، وبتوسعة «مجلس الشورى» لتمثيل الفصائل المنضمة إليها». وأعلن المبادرون تشكيل «لجنة تقييم ومتابعة لهذا الانضمام، تتألف من أعضاء «مبادرة أهل العلم» عبد المنعم زين الدين، وماهر علوش، وأيمن هاروش» (والأخير عضو في «المجلس الشرعي لأحرار الشام» وأحد المكلفين بإجراء مراجعات «شرعية» شاملة لها). وأمس، أصدرت «حركة أحرار الشام الإسلامية» بياناً، أكدت فيه انضمام «ألوية صقور الشام» و«جيش الإسلام/ قطاع إدلب» و«جيش المجاهدين» و«تجمع فاستقم كما أمرت» و«الجبهة الشامية/ قطاع ريف حلب الغربي» إليها. وأكد البيان أن «أي اعتداء على أحد أبناء الحركة المنضمين إليها أو مقارّها هو بمثابة إعلان قتال لن تتوانى «حركة أحرار الشام» في التصدي له وإيقافه مهما تطلب من قوة». ولم يحل ذلك دون استمرار المعارك العنيفة (والمرشّحة لمزيد من التسعير) في عدد من المناطق على امتداد محافظة إدلب. واندلعت مواجهات بين «النصرة» ومجموعات عدّة أبرزها «صقور الشام» على محاورعدّة، مثل إحسم ومرعيان في جبل الزاوية، وقرب بلدة بينين، ومحيط منطقة معرة النعمان. كذلك طالبت النصرة عناصر الجبهة الشامية بتسليم مقارها وتمركزاتها في عدد من مناطق ريف حلب الغربي. وتحدثت مصادر عن سيطرة «النصرة» على كميات من صواريخ تاو من مستودع في بلدة الحلزون (ريف حلب الغربي). وشهدت الأخيرة قيام عناصر «النصرة» بإطلاق الرصاص على متظاهرين من الأهالي، ما أدى إلى مقتل متظاهر وإصابة آخرين.