شكّل فشل الجهود الأميركية ــ الروسية المشتركة التي مثّلها «اتفاق جنيف»، في أيلول من العام الماضي، نقطة تحوّل مفصليّة في المشهد السوري أفضت إلى غياب فعالية الدور الأميركي، في انتظار وصول خليفة باراك أوباما إلى البيت الأبيض. وفيما تم التعويل على مؤتمر أستانة الذي دُعيت إليه إدارة الرئيس دونالد ترامب قبيل وصولها إلى البيت الأبيض، على أن تكون فاتحة لاستقراء التوجه الأميركي «الجديد» في سوريا، جاء الحضور الأميركي الباهت ليؤجّل الخطوة الأميركية الأولى. وبعد أقل من يومين على إنهاء أعمال أستانة، صدر عن البيت الأبيض أمر تنفيذي حول السياسة الجديدة لإجراءات اللجوء والهجرة، يتضمن فقرة تنص على «إنشاء مناطق آمنة» داخل سوريا وفي المناطق المحيطة.الأمر التنفيذي الجديد، الذي تضمّن أول مؤشر واضح ضمن سياسة ترامب المرتقبة تجاه الملف السوري، أثار جدلاً دبلوماسياً واسعاً، وساقت بعض وسائل الإعلام في تفسيره كدليل على زيادة الانخراط العسكري الأميركي في سوريا، فيما رحّبت دول إقليمية عديدة بالمشروع الذي تبنته هي نفسها قبل سنوات، مثل تركيا وقطر.

وتشرح الفقرة التي تتضمن الإشارة إلى المناطق الآمنة أنه «عملاً بقرار وقف إجراءات اللجوء لحملة الجنسية السورية، يُوجّه وزير الخارجية بالتعاون مع وزير الدفاع، بالعمل خلال 90 يوماً منذ تاريخ صدور القرار، لإعداد خطة لتوفير مناطق آمنة داخل سوريا أو في المناطق المجاورة لها، يستطيع فيها المهجّرون السوريون انتظار تسوية عادلة، مثل العودة إلى الوطن، أو إعادة التوطين المحتملة إلى بلد ثالث».
وعلى عكس الطبيعة الإجرائية للأمر التنفيذي الأساسي الذي يطرح في أغلبه إجراءات للتضييق على الهجرة واللجوء إلى الولايات المتحدة، فإن تداعيات قرار إنشاء «مناطق آمنة» يجب النظر إليها ضمن جملة مقارنة مختلفة، تضع في الاعتبار الطبيعة الراهنة للمسارين السياسي والعسكري للأزمة السورية، وتموضع القوى الفاعلة والمؤثرة فيها.

سيتطلّب إنشاء مناطق آمنة تنسيقاً عالي المستوى
مع موسكو

وقد يكون المنظور الحقيقي للخطوة الأميركية التي لم تتجاوز بنصها الحرفي «وضع خطة» لإنشاء تلك المناطق، هو ما عبّر عنه الرئيس ترامب في مقابلة مع قناة «أي بي سي» بقوله إن «أوروبا ارتكبت خطأً جسيماً باستقبال ملايين اللاجئين من سوريا... لا أودّ أن يحدث ذلك هنا. سأقيم بالتأكيد مناطق آمنة في سوريا». أي أنها خطوة مكمّلة لقرار الحد من عدد اللاجئين والمهاجرين، تراعي الاعتبارات الإنسانية.
ومع التسليم بجدية ترامب في طرحه لفكرة المناطق الآمنة، تظهر عدة تساؤلات مهمّة ترتبط بآلية وظروف نجاح واشنطن في إنفاذ هذه الخطوة، قد يكون أهمها هو موقع تلك المناطق «داخل سوريا»، إذ يفرض الواقع الميداني الحالي ثلاثة خيارات على الإدارة الأميركية، هي مناطق سيطرة قوات «درع الفرات» ومناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطية» إلى جانب الحدود الأردنية مع البادية السورية. وفيما يبقى الخيار الأخير هو الأصعب لوجستياً، لكون المنطقة صحراوية وشبه خالية من التجمعات السكانية اللازمة لتأمين البنية التحتية والخدمات لأي مخيم مفترض، فإنه متاح لجهة تعاون الأردن ووجود تغطية جوية من قوات «التحالف الدولي» في المنطقة. أما خيار مناطق سيطرة «قسد»، فسيكون متاحاً من الجانب اللوجستي مع وجود قوات خاصة أميركية في المنطقة، غير أنه قد يلقى اعتراضاً من المكون الأساسي في «قسد» وهو القوات الكردية، لكون غالبية المهجّرين من أصول عربية.
ويبقى خيار المنطقة الحدودية التي تسيطر عليها القوات الموالية لأنقرة بين جرابلس وأعزاز، وصولاً إلى حدود مدينة الباب، هو الخيار الأكثر فعالية وحساسية للجانب الأميركي في الوقت نفسه. إذ ستسهّل تركيا جميع إجراءات إنشاء المنطقة وخدماتها الضرورية، إلى جانب وجود شبكة واسعة من المنظمات والوكالات الأممية وغير الحكومية التي تعمل قرب الحدود، وبإمكانها تغطية خدمات «المناطق» التي قد تنشأ. وفي رد الفعل التركي الأول، أكدت الخارجية أن أنقرة دافعت منذ البداية عن فكرة إقامة مناطق آمنة، وأوضح المتحدث باسم الخارجية حسين مفتي أوغلو، أن «المهم هو كيف ستكون نتائج هذه الخطوة؟ وما هي المعلومات والتوجيهات التي ستصدر عن المؤسسات الأميركية في هذا الشأن؟».
غير أن التحديات التي قد تواجه هذا الخيار ليست بالأمر السهل، إذ إن المنطقة ما تزال غير مستقرة على الجانب الميداني في ظل الاشتبكات مع «داعش» في الباب، ويحتاج قرار العمل ضمنها إلى تنسيق عالي المستوى مع الجانب الروسي، ومن خلفه دمشق وطهران اللتان تصران على أن القوات التركية هي قوات غازية.
وبرغم التفاهمات التي تجمع موسكو وأنقرة، وتسهّل عمل الأخيرة ضمن الأراضي السورية، غير أن إنشاء «منطقة آمنة» سيكون خارج تلك المعادلة، وسيتطلب إعادة فتح قنوات الحوار مع موسكو بما سيحمله ذلك من نقاط إضافية في ملف التسوية السورية وغيرها من ملفات عالقة بين البلدين. وأشارت موسكو في معرض تعليقها على القرار الأميركي، إلى أن واشنطن «لم تنسق أي خطط معها لإقامة مناطق آمنة، داعية ترامب إلى «دراسة العواقب المحتملة لهذا القرار». وقد تكون مهلة الـ90 يوماً لإقرار الخطة مدروسة بعناية، لتحيل الحسم بهذا الموضوع إلى ما بعد محادثات جنيف المرتقبة، ومعرفة ما سينجم عنها من تطورات على ضوء تفاهم أستانة الأخير.
وبمعزل عن التكهنات حول مصير الخطوة الأولى في العهد الأميركي «الجديد»، فإنها من دون شك ستشكّل حاملاً مهماً لعودة اللاعب الأميركي إلى الملعب السوري بشكل مباشر، وستتيح له فتح قنوات التواصل المجمّدة مع الجانب الروسي ونقاش التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، التي تعد المحور الرئيسي لوعود ترامب الانتخابية حول سوريا.