تشي التحركات الجارية على الساحة الأفريقية، في الآونة الأخيرة، بأن البعد الأفريقي لمصر بدأ يشهد فصلاً جديداً من التنافس، عبر دخول الجانب السعودي طرفاً مباشراً، وهو ما تبدّى في قيام وفد خليجي (في نهاية العام الماضي) بزيارة لـ«سدّ النهضة» الإثيوبي، أحد عناوين التوتر في العلاقات بين القاهرة وأديس أبابا، والتحوّل المثير للانتباه في السياسة الخارجية للسودان، الذي تخلى عن علاقته بإيران، فاستدار نحو السعودية، ضمن مسار بدأ منذ أكثر من عام، وتُوّج بزيارة قام بها عمر البشير للرياض، تزامناً مع رفع جزئي للعقوبات الأميركية على الخرطوم.
وفيما وجدت مصر نفسها، في خلال السنوات القليلة الماضية، في موقع الدفاع إزاء التحركات المتعددة الأطراف في عمقها الأفريقي، فإن الفترة الأخيرة، شهدت العديد من التحركات السياسة باتجاه دول حوض النيل، ولا سيما على خط القاهرة ــ كامبالا (أوغندا)، والقاهرة ــ جوبا (جنوب السودان)، وقد تُوّجت بزيارة قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي للعاصمة الأوغندية، وأخرى لرئيس دولة جنوب السودان سالفا كير للعاصمة المصرية، في خطوة أثارت تساؤلات عن حقيقة ما يجري في كواليس الديبلوماسية المصرية، ولا سيما أن الزيارتين ترافقتا مع اتهامات إثيوبية ذات طابع أمني، عبر الحديث عن مخططات وُصفت بـ«القذرة»، الهدف منها «تخريب سد النهضة»، بدءاً بدعم متمردي الـ«أورومو»، وصولاً إلى ترجيح كفة سالفا كير في المواجهة العسكرية المفتوحة ضد معارضيه، على حدّ زعم مصادر في أديس أبابا.
في سياق هذا الحراك، تتقاطع مجموعة تطورات في السياسة الخارجية المصرية، أبرزها على الإطلاق التوتر الكامن في العلاقات المصرية ــ السعودية، ولا سيما بعد تعقّد ملف تيران وصنافير، على إثر الحكم التاريخي الذي أصدرته المحكمة الإدارية العليا في مصر، والمثبّت لمصرية الجزيرتين، والتباعد بين الطرفين في ما يتعلق بقضايا إقليمية حساسة، بما في ذلك الملف السوري.
وعلى مستوى آخر، يأتي الحراك الديبلوماسي المصري في البعد الأفريقي، متزامناً مع مواقف ملتبسة من قبل السودان، تبدّت خصوصاً في الفتور المثير للريبة تجاه مشروع «سد النهضة»، وفي تجديد «روتيني» للشكوى السودانية أمام مجلس الأمن الدولي بشأن مثلث حلايب وشلاتين، وحديث مصري عن عمليات تدريب تجري في الخرطوم لعناصر من تنظيم «حسم» المنبثقة من جماعة «الإخوان المسلمين»، والمتهمة بالعديد من العمليات الإرهابية.

«سد النهضة»... بوابة العودة

لا شك في أن المحرّك الأساس للعودة المصرية إلى أفريقيا، هو «سد النهضة» الإثيوبي، الذي ترى فيه مصر تهديداً جدياً لأمنها القومي. وبالرغم من سلسلة تفاهمات جرى التوصل إليها بين القاهرة وأديس أبابا، بشأن الاستخدام الأفضل لمياه النيل، فإنّ إثيوبيا واظبت على اتخاذ الإجراءات الأحادية المثيرة للريبة، والتي جعلت السلطات المصرية تتحسب لنيات دفينة لدى أديس أبابا، الطامحة إلى احتلال مكان الريادة في حوض النيل، على حساب الدور المصري التقليدي، الذي راح يتضاءل بنحو دراماتيكي، بعد فترة ازدهار إبان العهد الناصري.
بطبيعة الحال، لا يمكن تحميل العهد الحالي في مصر مسؤولية هذا التراجع، الذي بدأ يتخذ مساراً شديد الانحدار، منذ محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الرئيس المخلوع حسني مبارك في نيروبي عام 1995، حتى أهملت أفريقيا كلياً، بعدما استدارت السياسة الخارجية المصرية شمالاً (الولايات المتحدة وأوروبا)، وشرقاً (العراق وفلسطين ولبنان والصراع الخليجي ــ الإيراني)، وهو ما جعل الساحة الأفريقية خالية لمصلحة أربع دول أخرى، هي جنوب أفريقيا (جنوباً)، وليبيا (شمالاً)، ونيجيريا (غرباً)، وإثيوبيا (شرقاً)، التي ظهرت كعملاق جديد في القارة السمراء.
هذا الواقع، ازداد سوءاً بعد سقوط نظام حسني مبارك، فخلال المرحلة الانتقالية التي قادها المجلس العسكري بعد «ثورة 25 يناير» (2011-2012)، عاد الحديث عن التهديد المائي الذي يمثله قرب تدشين الأعمال في «سد النهضة»، فيما اتسمت مقاربة نظام «الإخوان المسلمين» للمسألة بكثير من الخفّة، تجلّت بصورة كوميدية، حين عقد الرئيس المعزول محمد مرسي اجتماعاً حول السد الإثيوبي، كان من المفترض أن تكون مداولاته سرية، ليتبيّن أن وقائعه منقولة مباشرة على الهواء، عبر التلفزيون المصري، وهي واقعة من ثلاث قال الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل حينها إن واحدة منها فقط تكفي لسقوط نظام «الإخوان»، إلى جانب قطع العلاقات مع سوريا، والتعامل برعونة مع التطورات في سيناء.
والحق يقال، فإنّ السيسي قد أعاد، خلال عهده، التركيز على العلاقات المصرية ــ الأفريقية، أملاً في استعادة المكانة المصرية في أفريقيا، بصرف النظر عن بعض الهفوات، لا بل أوكل إلى جهاز المخابرات المسؤولية الأولى عن ملف حوض النيل، بالتنسيق مع مستشارته فايزة أبو النجا.

تسلل سعودي

لكن يبدو أن الحراك المصري على الساحة الأفريقية لا يروق جهات إقليمية أخرى، على رأسها السعودية، التي سارعت إلى نقل خلافها المستجد مع مصر إلى القارة الأفريقية، وتحديداً في المربع الاستراتيجي للأمن القومي المصري: إثيوبيا، السودان، جيبوتي، أريتريا.
وربما لم تثر التحركات السعودية، في بادئ الأمر، ريبة مصر، خصوصاً أنها ارتبطت، ظاهرياً، بمقارعة النفوذ الإيراني في القرن الأفريقي، وتأمين الممرات البحرية، في خضم الحرب على اليمن، من قبيل إقامة قاعدة بحرية في جيبوتي، وتوقيع اتفاق تعاون أمني مع أريتريا، وتجيير الهبة السعودية للجيش اللبناني، زائد ملياري دولار، إلى السودان.
ولكن الأمر اتخذ بعداً استفزازياً حين قام في خلال الشهر الماضي، مستشار الملك السعودي في الديوان الملكي أحمد الخطيب، بزيارة لـ «سد النهضة»، في خطوة عُدَّت تصعيداً سعودياً باستغلال ورقة السد ضد السيسي.
يضع رئيس وحدة دراسات السودان ودول حوض النيل في مركز الأهرام للدراسات السياسية، هاني رسلان، في حديث إلى «الأخبار»، هذه الزيارة في إطار «المكايدة الفجة لمصر»، بعد التوتر الذي نشأ مع السعودية، على خلفية الموقف من سوريا وأزمة الجزيرتين. ويشير رسلان إلى أن الموقف السعودي اتسم، منذ البداية، بالنأي عن النفس تجاه أزمة «سد النهضة»، مشيراً في هذا الخصوص إلى التنصل الرسمي السعودي من موقف مساعد وزير الدفاع السابق خالد بن سلطان، القائل بأن السد الإثيوبي يشكل خطراً على الأمن المائي المصري، والعربي عموماً.

لا يروق الحراك المصري
في أفريقيا لجهات إقليمية
أبرزها السعودية


من جهته، يصف مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق للشؤون الأفريقية، معصوم مرزوق، في حديث إلى «الأخبار»، الزيارة الخليجية لـ«سد النهضة» بأنها «زيارة سياحية أُلبست صفة سياسية»، ولكنه يرى أن تلك كانت خطوة «خاطئة» من قبل الطرفين، إذ دلت على سوء نية من جانب إثيوبيا، في ظل التوتر القائم حول السد، وسوء تقدير من جانب السعودية، إذ بدت كأنها «مماحكة ضد مصر»، أو «شكل من أشكال الضغط السياسي».

صراع على السودانَين؟

لا يمكن فصل مقارعة السعودية لمصر في بعدها الأفريقي عن الزيارتين المثيرتين للانتباه اللتين قام بهما سالفا كير للقاهرة، وعمر البشير للرياض، واللتين لم تفصل بينهما سوى بضعة أيام.
هاتان الزيارتان أثارتا الكثير من التساؤلات، ولا سيما أنهما تعكسان تحوّلاً كبيراً في العلاقات بين جوبا والخرطوم بكل من القاهرة والرياض. وبالرغم من أن الاستدارة السودانية باتجاه السعودية، على حساب إيران، لم تكن مفاجئة، فإنها تشي بقيام محور جديد في القرن الأفريقي، إذا ما رُبطت بالتمدد السعودي السريع.
يقلل السفير مرزوق من التحليلات المبالغة في تفسير هذا التقارب، فهو يرى أن العلاقات بين الرياض والخرطوم ليست وليدة اليوم، بل إنها تعود إلى بداية حكم «جبهة الإنقاذ الوطني» في السودان (1989)، بالنظر إلى نزعتها «الإسلاموية». لكن التقارب السعودي ــ السوداني يسير على خطى غير تقليدية، إذا ما نظرنا إلى تطوره خلال العام المنصرم، لا بل إن السودان ترى مصلحة في التحالف مع السعودية، وحتى إثيوبيا، على حساب التقارب مع مصر، بالنظر إلى اعتبارات عدّة، اقتصادية (الاستثمارات السعودية والإثيوبية) والأمنية (تجنب أي توتر مع إثيوبيا في منطقة القلابات)، وهو ما يفسر، على سبيل المثال، ابتعاد الخرطوم عن القاهرة، في ما يتعلق بالموقف من «سد النهضة».
برغم ذلك، يرفض مرزوق تحميل تلك الزيارات تفسيرات مبالغاً فيها، إذ يشير إلى أن العلاقات بين مصر والسودان قديمة وغير مقطوعة، ويقلل من أهمية الحديث عن تحركات مصرية في جنوب السودان أو إثيوبيا، أو حتى وجود رهان مصري على جنوب السودان في ما يتعلق بإحباط مشروع «سد النهضة»، كما يُزعم، إذ يرى أن كل ما في الأمر قد يكون دعم موقف الديبلوماسية المصرية في المحافل الأفريقية، باعتبار أن جنوب السودان هي أحدث دول حوض النيل.
لكن بعض الخبراء في القرن الأفريقي يتحدثون صراحة عن تدخل قوات خاصة مصرية في القتال بين سالفا كير والمتمردين في دولة الجنوب، لا بل يتهمون مصر بإبرام اتفاقية سرية مع جنوب السودان لتخريب «سد النهضة»، وهو ما ينفيه كل من رسلان ومرزوق، إذ يشدد الأول على أن تلك المقولات نتاج لـ«خيال مريض»، فيما يرى الثاني أن مصر لا يمكنها الدخول في مغامرة خطرة كهذه.




تعويلٌ على الإمارات



القاهرة ــ الأخبار
على الرغم من التصريحات الرسمية الهادئة بين القاهرة وأديس أبابا في الفترة الأخيرة، فقد بات لدى الإدارة المصرية اقتناع بأن نقاط الخلاف أصبحت أكبر بكثير من نقاط الاتفاق بين البلدين، الأمر الذي سيتطلب تصعيداً للموقف لا يمكن أن تتحمله مصر بمفردها في ظل ابتعادها عن الحضور في القضايا الأفريقية المصيرية.
وفي ملف «سد النهضة»، لا بد من أن تسعى القاهرة إلى الاعتماد على الدول الأفريقية من دون وساطة عربية بعد التوتر الأخير في العلاقات مع السعودية. وفي هذا الصدد، تشكّل بعض الاستثمارات الإماراتية سبباً لتقريب وجهات النظر بين مصر وعواصم أفريقية تحضر فيها الإمارات بقوة، وخاصة في ما له علاقة بدول القرن الأفريقي ودول حوض النيل. ومن المعروف أنّه حتى الآن، تُعتبر الإمارات الحليف الأوثق للسيسي، بينما يلعب القيادي السابق في حركة فتح، محمد دحلان، دور حلقة الوصل الأبرز بين الدولتين في العديد من الملفات (حتى في الملف الليبي).
من جهة أخرى، ففيما يرى عميد معهد البحوث والدراسات الاستراتيجية لدول حوض النيل، عدلي سعداوي، في حديث إلى «الأخبار»، أن «تنمية العلاقات المصرية الأفريقية تمثل عمقاً إستراتيجياً لمصر»، فإنه يؤكد على أنّ «الإهمال الذي لحق بهذا الملف يمكن استدراكه بشكل كبير»، الأمر الذي يستدعي وقوف حلفاء موثوقين بجنب القاهرة.