تونس | من الخصوصيات التونسيّة، وجود نقابة يتعدى دورها مجرد كونها منظمة مهنيّة، إذ ساهم «الاتحاد العام التونسي للشغل» بصفته جزءاً من الحركة الوطنيّة في مقارعة الاستعمار الفرنسي، ومثّل في الفترة اللاحقة للاستقلال (1956) حاضنة للمعارضين، برغم مسايرة قيادته للسلطة في حقب معينة، ولعب دوراً لا في تأطير الثورة فقط (عام 2011)، بل كذلك في المحافظة على مكتسباتها.
اليوم، وبعد 71 عاماً على تأسيس «الاتحاد»، ومرور أربعة عقود على حوادث «الخميس الأسود»، فإنّ أحزاب الائتلاف الحاكم، وخاصة حزب «نداء تونس» و«حركة النهضة»، لم تتمكن خلال المؤتمر العام للاتحاد، الذي أنهى أعماله في 26 كانون الثاني باختيار أمين عام جديد، من الظفر بموطئ قدم في المكتب التنفيذيّ وفي الهياكل العليا للمنظمة العريقة التي تواظب على حماية استقلاليتها عن السلطة.
وقد ثبّت المؤتمر الأخير التحالف بين قوى نقابيّة مستقلة وأخرى منتمية إلى اليسار (ما يبشّر باستمرار التوجه النقديّ تجاه سياسات السلطة)، وأقرّ تغييرات هيكليّة تهدف إلى ضخ روح الشباب في المنظمة التي تأسست عام 1946، ولتمكين المرأة داخلها.

العاشوريّون واليساريّون

يتمثّل رهان مختلف الفاعلين داخل المنظمة في الحفاظ على توازن قائم بينهم، ليس فقط في المكتب التنفيذيّ (رأس القيادة)، بل في كل الهياكل الوسطى والقاعديّة. فأيّ خلل في التوازن قد يخلط الأوراق ويعيد تنظيم التحالفات على أسس وقواعد جديدة. ويقوم التوازن الحالي، الذي بدأت تظهر بوادر نشوئه منذ مؤتمر جربة الاستثنائيّ (2002)، بين ما يعرف بالعاشوريّين وبين جزء من اليسار الماركسيّ واليسار القوميّ العربيّ.
يؤسس العاشوريّون (نسبة إلى الحبيب عاشور القياديّ التاريخيّ في المنظمة) عصبيّتهم أساساً على قاسم مشترك بينهم، هو انتماؤهم النقابيّ الصرف وغير المسيّس (لا يعني ذلك ابتعادهم عن الشأن العام) وأصولهم العماليّة المتواضعة. وينقل عن نور الدين الطبوبي، الأمين العام الجديد للاتحاد، قوله سابقاً إنّه لا يؤمن بالسياسة في «الاتحاد» وإنّ من يدخل المنظمة بجبة السياسة سيخسر الاثنين، أي السياسة والنقابة. حياد الطبوبي السياسي لا يختلف عن حياد الأمين العام السابق حسين العباسي، والأسبق عبد السلام جراد، وصولاً إلى منظّر توجههم الحبيب عاشور (1913 ــ 1999). وينحدر أربعتهم من قطاعات عماليّة، ويفتقدون شهادات علميّة عالية: جاء الأمين العام الجديد من نقابة أساسيّة في شركة اللحوم، وجاء العباسي من نقابة قيّمي المعاهد، وبرز جراد من نقابة النقل، فيما بدأ عاشور مساره النقابي موظفاً في بلدية صفاقس.
ويشغل العاشوريون في المكتب التنفيذي الحالي، كما في سابقيه، مراكز مؤثّرة يمكن من خلالها إدارة الاتحاد وتعطيل الإجراءات التي يمكن في نظرهم «أن تُخرج المنظمة عن الخط». فإلى جانب الأمانة العامة، يشغل كمال سعد خطّة الأمين العام المساعد المسؤول عن النظام الداخلي، ولا يُفعّل أي إضراب عن العمل إلا بتوقيعيهما، كما ينوب سعد عن الأمين العام عند غيابه أو تعذر تحمله لمسؤولياته.
أما اليسار (بشقيه الماركسي والقوميّ)، فينقسم عندما يتعلق الأمر بالاتحاد إلى قسمين. انخرط قسم منه، بعد فترة معارضة داخليّة خلال الثمانينيات والتسعينيات، في تحالف مع العاشوريّين منذ «مؤتمر جربة» وتعزز التحالف بعد الثورة (2011)، واتسعت تمثيليّته. وبقي جزء آخر أكثر جذريّة خارج خريطة التحالفات الرابحة واستمر في المعارضة. ولليسار دور مهم في الضغط من أجل أن يكون للمنظمة دور أكبر من مجرّد المطلبيّة. وقد ساهم بعد الثورة في إقرار إضرابين عامين عقب اغتيال الزعيمين المعارضين اليساريين شكري بلعيد، ومحمد البراهمي، وفي الضغط على حكومة «تحالف الترويكا» للخروج من الحكم وتثبيت حكومة تكنوقراطيّة من خلال تنظيم حوار وطنيّ (ساهم في تنظيمه عمادة (نقابة) المحامين ومنظمة الأعراف).
ويعني ترسّخ استقلال قرار «الاتحاد» وخطه الفكريّ، بأنّه سيكون له دور في الدفاع عما تبقى من مكتسبات دولة الرعاية الاجتماعيّة في مواجهة الخيارات النيوليبراليّة التي يتبناها الائتلاف الحاكم من خلال حكومة يوسف الشاهد.

المستجدات الهيكليّة

خلال المؤتمر الأخير، مثّلت مسألة تنقيح الفصل العاشر من القانون الأساسيّ للاتحاد أبرز الخلافات التي طفت قبل المؤتمر وخلاله. وينص الفصل على حصر عدد دورات المسؤوليّة في المكتب التنفيذي بدورتين، وقد جرت قبل المؤتمر محاولة لتغيير الفصل خلال المجلس الوطنيّ الذي قرر إرجاء الحسم في المسألة إلى نواب المؤتمر الذين رفضوا بدورهم التنقيح. كما سحب النواب التقيّد بدورتين على بقيّة الهياكل الوسطى والقاعديّة، ويساهم هذا السحب مستقبلاً في إدخال روح الشباب إلى الهياكل وجعل التداول على المسؤوليات أمراً لا خيار فيه (حيث شغل بعض المسؤولين النقابيّين مواقعهم عشرات السنوات).

سوف يدافع الاتحاد عما تبقى من مكتسبات دولة الرعاية الاجتماعية

كذلك أفرز المؤتمر تولّي امرأة، هي نعيمة الهمامي، مسؤولية في المكتب التنفيذي بعد فترة غياب للنساء عن الهياكل القيادية تجاوزت الستين عاماً. وليست مسألة تمثيل المرأة قضيّة مستجدة، إذ سبق أن ترشحت نساء عديدات، من بينهن الهمامي نفسها، في مؤتمرات سابقة، لكن كنّ يفشلن دائماً في بلوغ رأس القيادة. ويعود ذلك إلى عوامل عدة، من بينها ضعف تمثيليّة النساء ضمن نواب المؤتمر (بضع عشرات من بين أكثر من خمسمئة مؤتمِرٍ) بالمقارنة مع نسبتهم في المنظمة ككلّ (حوالى 54% من المنخرطين). كما لا يمكن حصر أسباب صعود امرأة إلى المكتب التنفيذيّ في الرغبة الداخليّة للاتحاد، إذ تتعدى ذلك لتشمل سيادة خطاب تمكين المرأة بعد الثورة حين زاد اهتمام الرأي العام ( ومجموعات الضغط النسويّة) بتمثيليّة النساء، وسنّت الدولة قوانين تدعم التناصف، كما تحدث بعض النقابيّين عن ضغط المنظمات العماليّة العالميّة الشريكة للاتحاد في هذا الاتجاه. وشمل تنقيح القانون الأساسيّ توفير كوتا نسائيّة في مختلف الهياكل؛ ومنها المكتب التنفيذي الذي سيشغل النساء فيه مقعدين بدءاً من المؤتمر المقبل.
أما المسألة الثالثة المهمة التي مسّها التنقيح، فهي الترفيع في عدد مقاعد المكتب التنفيذيّ، إذ سيضاف مقعدان ويقسّم قسم القطاع الخاص إلى قسم مكلف بالقطاع العماليّ وقسم مكلّف بقطاع الخدمات. ويأتي ذلك استجابة لارتفاع عدد منخرطي المنظمة (صار الضعف تقريباً) من القطاع الخاص والتحديات التي يطرحها.

تحديات آتية

يمكن القول إنّه في ما عدا التعديلات الجزئيّة على مستوى الهيكلة الداخليّة للاتحاد، فإنّ المؤتمر لم يفرز تغييراً عميقاً يمكن أن يفضي إلى تبدل سياساته النقديّة تجاه السلطة، التي تلوم الحكومة على التجائها إلى المانحين الدوليّين وما يترتب عن ذلك من شروط تستهدف سياساتها. لكن في حين يبدو توجّه الحكومة النيوليبراليّ واضحاً، وخاصة بعدما أوقفت التوظيف في القطاع العموميّ إلى فترة غير معلومة، وتسعى إلى الترفيع في سنّ التقاعد، وتسريح آلاف الموظفين، وخصخصة شركات عموميّة، لا تزال مقترحات وبدائل الاتحاد غامضة.
وتأمل الحكومة، عن طريق وزيريها النقابيّين السابقين المنتدبين لضرورات المرحلة، إيجاد صيغة «إصلاحيّة» تسمح لها بتطبيق مشاريعها دون خلق صدام مع الطرف الاجتماعيّ (الاتحاد). ويأتي ذلك في وقت يبشّر فيه الاتحاد العمال والموظفين بأنّ له دراسات تكتنف على حلول تحفظ مصالحهم، وخاصّة في ما له علاقة بأزمة الصناديق الاجتماعيّة ونظام الضمان الصحيّ.
من جانب آخر، تنتظر الاتحاد مهمّة توسعة تأطيره وتغطيته للقطاع الخاص، وخاصة مع قرب انطلاق المفاوضات الاجتماعيّة مع أرباب العمل الحرّ الذين يرفض جزء واسع منهم ترفيع الأجور، ولا يرى أنّ للمنظمة قدرة للضغط عليه.