في تغريدة لأحد الناشطين الإماراتيين، قال فيها إن دول «التحالف العربي» لن ترضى بوجود حزب الله آخر على الحدود الجنوبية للسعودية، وإن الحرب على اليمن سوف تستمر حتى لو أدت إلى التضحية بآخر خليجي، لكن الحقيقة المرة هي أن الحرب ضد الشمال اليمني، أو الصراع بين أجنحة «الشرعية» ــ آخر فصولها معركة مطار عدن بداية الأسبوع ــ يتحمل الخليج فيها التكلفة المادية والتسليحية، فيما تستمد قوتها البشرية من أبناء الجنوب اليمني.
لم يعد الصراع بين دولة الإمارات العربية والسعودية حبيس دوائر القرار والمطابخ السياسية، أو من أتيح له الاطلاع من التابعين لهما من الأدوات اليمنية. الاحتراب الدموي، الذي حدث بداية الأسبوع الحالي في مطار عدن، لم يكن وليد المصادفة، ولا هو غضب اعترى الرئيس المستقيل عبد ربه منصور هادي ثأثراً للكرامة الوطنية وسيادة البلاد المفترض كما ينص الدستور اليمني أن يكون حريصاً على حمايته، أو حتى بناءً على طلب التدخل الخارجي الذي استدعى به قوات «التحالف» لما زعم أنه مؤازرة للشرعية اليمنية (مع الإشارة إلى أن هادي اعترف لإحدى المحطات الفضائية الخليجية بأنه سمع بالحرب على اليمن في محافظة المهرة أثناء هربه من عدن)، بل إذا بالتدخل (الحرب) لمحاربة ما سموهم الانقلابيين يكشف عن النيات الحقيقية لهذه الحرب، وهو إخضاع اليمن بشماله وبجنوبه، وخنق اقتصاده والاستفادة من موقعه الاستراتيجي بعد السيطرة على أهم النقاط الحيوية والمؤثرة في البلد والإقليم.
لم يكن قبل معركة مطار عدن الأخيرة متاحاً للعديد من النخب وأصحاب الرأي وحتى السواد الأعظم من الجنوبيين التمييز بين المصلحة الوطنية للجنوب اليمني، وبين ما يحدث في بلدهم بسبب الدعاية الخليجية المنهجية التي عملت على إقناع الجنوبيين بأن دول التحالف إنما تدخلت لتنفيذ رغبتهم في الاستقلال وانصياعاً لقرار رئيسهم باستعادة الشرعية، ومن أجل إنقاذ اليمن من براثن المعتدين والغزاة (المزعومين).
عوامل كثيرة أدت إلى ضياع البوصلة عند شرائح لا بأس بها من الجنوبيين الذين تخلوا عن تاريخهم الوطني والقومي وحتى (الاشتراكي اليساري) الحاكم المنفرد لحقبة الاستقلال، وانساقوا رغبة أو رهبة وراء الدول الخليجية التي ناصبتهم العداء لعقود طويلة، مع الإشارة أيضاً إلى أن التاريخ الجنوبي ولا سيما بعد الاستقلال شهد حروباً وتوترات دائمة ومستمرة مع السعودية، ولا يزال يحفر عميقاً في الذاكرة الجنوبية.
قد يكون لدخول الجيش و«اللجان الشعبية» إلى عدد من محافظات الجنوب بعض التأثير السلبي في المساهمة باحتجاب الحقيقة، مع العلم بأن وجودهم آنذاك جاء بعد تزايد أخطار «القاعدة» وتشكيلها تهديداً لمناطق الشمال انطلاقاً من الجنوب بالتعاون مع هادي وحزب «الإصلاح» الإخواني، ثم سرعان ما تراجع الحضور الشمالي وعاد إلى الحدود الشطرية السابقة.
عقب انسحاب الجيش و«اللجان» من الجنوب، ارتفعت الأصوات الوطنية داعية إلى ضرورة التوقف عند الحدود الشطرية، وأخذت تلك الدعوات بعداً جنوبياً جامعاً بين الانفصاليين، والفدراليين، والوحدويين، على اعتبار أنها تصب في خدمة القضية الجنوبية العادلة والمحقة. لكن دول «التحالف» سارعت إلى تدارك الأمر بسلب الحياد الطبيعي من الجنوبيين في معركة لا ناقة للجنوب فيها ولا جمل، وفق التعبير الذي تفضله «النخبة الجنوبية»، وعمدت إلى حرفهم عن قضيتهم الرئيسية والزج بشبابهم في حرب اليمن وإجبارهم على دفع فاتورة غالية من دمائهم وخراب بلدهم، إضافة إلى العداوة التي يخلفها الحضور في الجبهات الشمالية، ولا سيما أن الانتقال من المظلومية والمعتدى عليه إلى الظالم المعتدي سيخلف نتائج مستقبلية لن تكون في مصلحة القضية الجنوبية على الإطلاق.
المشاركة في الحرب على مناطق الشمال تنفيذاً لأجندات تتعلق بمصالح الدول الخليجية، التي تشن حربها على اليمن ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية، تضع الفئة الداعمة والمشاركة فيها بأي حال أتت هذه المشاركة، في درجة الخيانة والارتزاق على مستوى الأشخاص والجماعات، وتجعل من الوطن منصة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. في إطار آخر، يؤكد ذلك صحة قول الجيش و«اللجان» عن أن دخولهم إلى الجنوب إنما كان لدرء أخطار «القاعدة» والأدوات السعودية الآتية من المحافظات الجنوبية، ما يؤسس لحرب أهلية بالتأكيد الخاسر الأكبر فيها القضية الجنوبية.
لعل أبرز العبر من معركة مطار عدن أنها كشفت أن الغالبية العظمى من الجنوبيين ليست على اطلاع على ما كان يدور حولهم، كما فضحت الاستخدام السيئ لدى تحالف الحرب الوافد إليهم من الجهة المقابلة للجزيرة العربية، باستغلال فقرهم وعوزهم ودغدغة مشاعرهم بدعوى الموافقة على طموحاتهم، تارة بالانفصال وأخرى بالأقاليم، وطوراً بالتقسيم، وطوراً آخر بالفدرلة، أو بأي صيغة فيها استعطاف واستدراج، من ثم الصب في خانة الاستخدام المفرط في توظيف شعب بأكمله وتأمين المستلزمات البشرية منه لاستمرار المعارك في الشمال خدمة للمشروع الصهيو ــ أميركي في المنطقة.
لقد شكلت معركة مطار عدن صحوة لكثيرين من الذين التبس عليهم الأمر رغم عدم موافقتهم الضمنية على ذهاب الشباب إلى القتال في الشمال، والاعتراض على الوضع برمته، وكذلك من اتخاذ الجنوب منطلقاً للعدوان على الشمال، لكنهم كانوا يلوذون بالصمت خوفاً من الأبواق المستأجرة من دول «التحالف العربي»، لكنهم اليوم أمام اختبار وطني قاس، ولا سيما أن معركة تصفية الحسابات في مطار عدن قاتلت فيها الأطراف بعدما تلقى كل طرف أمراً من الدولة الداعمة له (السعودية والإمارات) بضرورة النزول إلى قتال الطرف الآخر من دون معرفة الأسباب.