في تجارب السياسة والصحافة والحياة، فللمرة الأولى، أثر لا يمحى، قد لا تكون ناضجة تماماً، لكنها تنطوي على سحر الاكتشاف الأول.التحق بجريدة «الإجيبشيان جازيت» للتدرب... وكانت في ذلك الوقت أكبر الصحف الأجنبية، التي تصدر باللغة الإنكليزية عن شركة الإعلانات الشرقية المملوكة لأسرة «فيني».

وقد تأثر بسكوت واطسون، المثقف اليساري الذي صاغته تجربة الحرب الأهلية في إسبانيا بكل عناصرها الفكرية والإنسانية العظيمة، وبهارولد إيريل، رئيس تحرير الجريدة.
بمجازفات السن الصبي في أيلول/سبتمبر ١٩٤٢، قبل أيام من بدء حرب العلمين، قرر أن يدخل تجربة تغطيتها عند الخطوط الفاصلة ما بين الحياة والموت. جازف بقراره دون موافقة والده وتمكن بطريقة ما من إقناع خاله أن يوقع على موافقة خطية بالسفر إلى مواطن الحرب.
قبل أن يسافر مباشرة، جلس إليه رئيس تحرير «الجازيت»، وكان ما تلقاه من إرشادات حاسماً في مسيرته المهنية.
قال إيريل باقتضاب: «لا ترسل أخباراً، حاول أن تستقصيها وتكتشف خباياها بقدر ما تستطيع، لا نتوقع منك أن تنافس مراسلي الصحف والوكالات الدولية، الظروف لن تمكنك من أن ترسل ما تحصل عليه في برقيات، والحل الوحيد أمامك، وهذا ما نطلبه منك ونكلفك به، أن تدون ملاحظاتك على ما ترى في ميادين الحرب وسير معاركها، وأن تسجل انطباعاتك على ورق أولا بأول على وقع ما يجري أمامك... وعندما تعود، حاول أن تضبط صياغاتها دون أن تفقدها حيويتها وطزاجتها التي كانت عليها، فالمادة المكتوبة على صياغتها الأولى في وقتها أكثر حياة مما يكتب بعدها».

«لا أحد يبادرك بمعلومات جدية إلا إذا كنت في صلب الصورة في بلدك»، وبشكل أو بآخر، فإن حواراته مع رؤساء دول وحكومات أوروبية تعمّد لسنوات، ألا يشير إليها حتى لا يثير حفيظة حسني مبارك



بعد سبعين سنة، وتجاربه المهنية اتسعت إلى آفاق مفتوحة، قال: «ثبت بالتجارب أن هذه القاعدة سليمة، وسليمة تماماً».
ذات يوم كان مقرراً للصحافي الشاب أن يلتقي مصطفى باشا النحاس، زعيم الوفد وزعيم الأمة ورئيس الحكومة. بدا مرتبكاً من فكرة اللقاء في حد ذاتها، فنهره هارولد إيريل، ووجه إليه نظرة مخيفة بعين فيها حَول، قائلاً: «أنت تمثل جريدة تطبع عشرات الآلاف من النسخ، وتأثيرها نافذ في مجتمع النخبة المصرية، لا بد أن تدرك منذ الآن أن الصحافي ند لرئيس الحكومة».
استوعب الدرس جيداً في علاقته مع السلطة، اقترب كثيراً واختلف أحياناً، وحاول طوال الوقت أن يحافظ على مساحة ندية، ولم يقبل أبداً بأقل من ذلك.
كان الدرس الثاني، الذي تلقاه في «الجازيت» من هارولد إيريل، أن يدرس موضوعه قبل أن يسأل مصادره، فـ»إذا ما اكتشفت (المصادر) أنك لا تعرف موضوعك، لن تقول لك شيئاًَ جديداً».
لم تطل رحلته مع «الجازيت» أكثر من عامين، فقد انتقل بدعوة من الأستاذ محمد التابعي ــ الرجل الذي صنع ثورة كاملة في الأسلوب الصحافي وحوّل لغة الصحافة إلى ما يسمى اليوم سلاسة الكتابة الصحافية ــ إلى مجلة «آخر ساعة».
هكذا قدر له في بداية حياته المهنية أن يتأثر بعقلانية هارولد إيريل، ورومانسية سكوت واطسون، ثم سحر أسلوب التابعي.
دروسه الأولى في الصحافة، بالذات من واطسون، دفعته للذهاب بعد ذلك إلى المناطق المتفجرة بالحروب والأزمات في اليونان وفلسطين وإيران وسوريا وكوريا وفيتنام، حيث صنع الحروف الأولى من اسمه في بؤر الموت والخطر، لكن لم يخطر بباله أنه بعد سنوات طويلة عندما يخرج من السلطة و»الأهرام» معاً، فإن أصدقاءه الصحافيين، الذين تعرف إليهم في ميادين القتال، و»كبر وكبروا معه»، سوف يمدون له يد المساندة ويفتحون أمامه أبواب الصحافة البريطانية والفرص الواسعة لاحتلال مكانة مرموقة في الصحافة العالمية.

(١)


في الأوراق الخاصة ما يكشف عن طرائق التفكير، وفيها أسرار أخفاها كاتبها وأحكام لم يفصح عنها، وكان قد قرر أن يترك أوراقه الخاصة على النحو الذي كتبت به أول مرة لمن يأتي بعده من باحثين ومؤرخين وصحافيين يدققون في الأصول الخام ويطابقونها بما نشر فعلاً في مقالات وكتب.
تلك مسألة ليست باليسر التي تبدو عليها، فالأوراق الخاصة سر صاحبها، وقد تستخدم ضده: لماذا أغفل نشر معلومات وردت فيها.. وكيف تباينت الصياغات الأولية مع ما هو منشور... ومدى تأثير الانحيازات الشخصية على الصياغات والرؤى والرواية كلها؟
كان يدرك ذلك تماماً، لكنه قرر أن يترك كل شيء للتاريخ يحكم بما يحكم به، قبل أن تُحرق الكتلة الرئيسية من تلك الأوراق الخاصة. في وقت لاحق، التفت إلى سجالات صاخبة حول «أوراق بوب وودورد»، ألمع الصحافيين الأميركيين المعاصرين، نالت على نحو فادح من صدقيته المهنية. كان وودورد قد باع بخمسة ملايين دولار أوراقه التي صاغ على أساسها كتابه الأشهر «كل رجال الرئيس»، عن سقوط الرئيس الأميركي ريتشادر نيكسون، بتداعيات فضيحة «ووترغايت». بدا لباحثين في الأوراق ومنقبين فيها أن ثمة تناقضات ومعلومات جرى التلاعب بها انتهكت سلامة روايته وقوضت أسطورته الخاصة.
كل ما نشر في الصحافة الغربية عن «أسطورة وودورد التي تهاوت» أودعه داخل «دوسيه أحمر». لم يكن مرتاحاً لفكرة «بيع الأوراق الخاصة»، لكنه بدا مستعداً أن يواجه الاختبار ذاته... بلا إغراء مال، أو إغواء بيع، واثقاً أن التنقيب في أوراقه وأصول تفكيره ينصفه في التاريخ... غير أن الأوراق راحت في «حرائق برقاش».

(٢)


سألني ذات مرة: «ما العبقرية؟»، لم يكن يتحدث عن نفسه، والحوار الذي قطع سياقه بسؤال العبقرية كان عن شخصيات صحافية وسياسية لها أدوارها المقدرة.
أجاب عن سؤاله بنفسه، معتمداً تعريفاً للمؤرخ الهولندي هنريك فان لون: «كمال التقنيات وشيء ما آخر»، أن يكون كل شيء دقيقاً ومتقناً يتوخى الكمال بقدر الاستطاعة الإنسانية، لكن التقنية المكتملة وحدها ليست عبقرية، فـ»التكنوقراطي» عنده التوجه ذاته للوصول إلى أعلى ما يستطيع من تقنية مكتملة. هي ضرورية بذاتها وملازمة للإبداع الذي يتجاوز المألوف والمعتاد، لكن العبقرية تستند بالإضافة إلى اكتمال الصنعة إلى شيء آخر، لا تستطيع أن تعرفه، أو أن تمسكه، أو أن تحيط بأسراره، ولكل شخصية استثنائية «شيء ما» يتخطى تقنياتها غير قابل للاستدعاء المعلب وغير صالح للنظريات الجاهزة.
عبقريته في أسلوبه، تقنياته «تعب عليها» وطورها من مرحلة إلى أخرى، حاول بقدر ما يستطيع أن يصل بها إلى شيء من الكمال، أو أن يكون مستوى إنتاجه المهني والفكري متسقاً مع حجم ما بذل فيه من جهد، فهو رجل لم يكن يدخر جهداً في عمله، يكرّس وقته كله لاستقصاء المعلومات والتدقيق فيها قبل أن يضعها في سياق... وغريزة التدوين عنده القاعدة الأساس لكل ما كتب وأنتج على مدى عقود، بالإضافة إلى تقنياته في قراءة الوثائق والخرائط والصور، لكن شيء ما آخر صنع عبقريته.
بتراكم الخبرات والتجارب، بدأ يرتب أوراقه الخاصة في مجموعات نوعية لكل مجموعة سماتها وطبائعها.
الأولى، تضم مواعيده الأسبوعية يوماً بعد آخر... وقد وافقت شخصيته واحتياجاته أوراق مطوية ألوانها زرقاء رآها في إحدى المكتبات اللندنية للـ»تذكر» عليها ثبت بأيام الأسبوع لتسجيل مواعيد اللقاءات عليها، فهو منضبط في مواعيده، ولا يلتقي عادة إلا بمن يعتقد أن له قيمة، أو لديه ما يشهد به في خلفيات حركة الحوادث.

عدتُ إلى إيران في ظروف جديدة... اطلعتُ على جانب من وثائق السفارة الأميركية... وأصدر آية الله الخميني تعليماته بفتح مكتب الشاه أمامي لأطلع على ما فيه وآخذ ما أريد
من وثائق


في ما بعد، طلب من إحدى المطابع المصرية الكبرى أن تطبع أوراقاً مماثلة دون حاجة إلى جلبها من العاصمة البريطانية.
في كل سنة ٥٢ أسبوعاً، ولكل أسبوع مواعيده المسجلة على ورقة «تذكر»، تودع كل مجموعة سنوية في «رابطة واحدة».
من طبائع الأمور أن تمزق أوراقاً سجلت عليها مواعيدك بعد أن تنقضي في نفس اليوم، أو اليوم التالي، وأن تلقي بقاياها في أقرب سلة مهملات... إلا هو، لم يفعل ذلك أبداً.
سألته ذات مرة إن كان ممكناً أن نراجع سوياً عدد المرات التي التقينا فيها على مدى السنوات المتصلة، وفي ما تحاورنا، وماذا سجل من ملاحظات استرعت انتباهه أجاب واثقاً: «نعم... باستثناء المرات التي التقينا فيها ببرقاش فأنا أعتبر نفسي هناك في إجازة لا أسجل مواعيد لقاءات، أو أودع ورقاً في أرشيف».
في أوراق مواعيده إشارات لافتة إلى حجوزات في سينما «راديو» كفيلم «فيفازاباتا»، الذي شاهده مع جمال عبدالناصر عندما كان يمكنه أن يرتاد دور العرض السينمائي في السنوات الأولى لثورة يوليو ١٩٥٢... وإشارات أخرى اكتسبت قيمتها من الزمن الذي يليها، ففي أوراق مواعيده أسماء كبر اسمها في ما بعد ولم يكن لها شأن عندما التقاها للمرة الأولى، تقريباً نساها، لكن مراجعة الورق تكشف وتبين وتدعو إلى تذكر شيء من لقاءات عابرة.
قال لي ذات مرة في نهايات عصر حسني مبارك: «لقد اكتشفت اليوم أن زكريا عزمي ــ رئيس ديوان رئيس الجمهورية ــ عندما كان رائداً في الحرس الجمهوري حضر في الشهور التي تلت حرب أكتوبر إلى مكتبي في الأهرام طالباً تدخلي لدى الرئيس السادات في موضوع ما رآه حساساً، نسيت القصة كلها، فقد كانت عابرة، لم أسجل موضوعها على الورق، لكنني كتبت اسمه عليها».
«للورق ذاكرة أخرى قد تكتسب من الزمن معاني لم تكن لها في وقتها».
الثانية، مجموعة أوراقه الشخصية التي يسجل عليها ملاحظاته وأفكاره وملخصات للقاءات أجراها مع شخصيات فاعلة في الأحداث ومتداخلة فيها، كل ما له قيمة يسجله على ورق بعد انتهاء اللقاءات مباشرة، يعود إليها ويفحصها ويتأكد من مصادر أخرى دقة ما ورد فيها من معلومات... ومجموعة الأوراق الشخصية تضم دفاتر سفر سجل فيها لقاءات جمعته مع مصادر من الدرجة الأولى ملوك ورؤساء حكومات وشخصيات نافذة في صناعة القرارات ببلادها... والمعلومات تتفاوت قيمتها من مصدر إلى آخر بحسب ما يتوافر له من اطلاع، أو بحسب ما يرغب في التطرق إلى ملفات حساسة.
«لا أحد يبادرك بمعلومات جدية إلا إذا كنت في صلب الصورة في بلدك، غير ذلك فلن تجد غير المودة والاحترام والكلام السياسي العام»، وبشكل أو بآخر، فإن حواراته مع رؤساء دول وحكومات أوروبية تعمد لسنوات، ألا يشير إليها لا في كتاباته ولا في إطلالاته التلفزيونية حتى لا يثير حفيظة مبارك، الذي لم يكن يتردد في إعلان ضيقه بسعة اتصالاته الدولية.
الثالثة، مجموعة محاضر كتبها لنفسه تضمنت اجتماعات لمجلس الوزراء تحت رئاسة عبدالناصر واجتماعات أخرى على درجة عالية من الأهمية.
كل ما له قيمة كان يكتبه على ورق، أو يضعه في محضر بعد أن يخلو إلى نفسه.
«لو أمسكت ورقة وأخذت تكتب عليها أمام أي مصدر تحاوره فإنه سوف يتوقف عن التدفق في البوح بأي أسرار وخفايا اطلع عليها، وسيخطر بباله على الفور أنه يعترف أمام الرأي العام».
«سوف يأخذ حذره ويخاطب الرأي العام عبرك ولا يخاطبك أنت».
«وأنت تستقصي مصادرك، فمن الطبيعي أن تركز على السياق أساساً، عندما تتذكره فإن ما يرتبط به من معلومات وتفاصيل ترد بدقة إليك».
غريزة التدوين من غرائزه المهنية، والإخلاص لمهنته يفوق أي تصور، فعالمه يبدأ من الصحافة ويعود إليها.
«هل تعرف كيف أقنعني عبدالناصر بقبول أن أكون وزيراً للإعلام؟».
«كان يعرف تعلقي بالأوراق والوثائق وما خلف الأحداث من قصص صحافية... في البداية تحفظت على قرار تعييني دون استشارتي في أمر يخصني، وذهبت إليه في منشية البكري، لكنه خاطب ما يعرفه في تكويني، عارفاً أن نقطة ضعفي الأساسية الصحافة وإغواءات أخبارها».
«قال لي عبدالناصر: عندك فرصة الآن أن ترى بنفسك ما يجري في الاجتماعات الوزارية من حوارات وأن تكون طرفاً في حوارات رسمية توفر لك خلفيات إضافية لما تعرف».
كعادته، سجل محضراً بما قاله الرئيس، وصدى صوته لازمه: «نحن مقبلون على مرحلة فيها قتال وسياسة، وأنت لست في حاجة إلى تعليمات يومية مني، وعليك أن تتصرف حتى نغطي موضوع نقل حائط الصواريخ إعلامياً ودبلوماسياً إلى الجبهة الأمامية، وسوف يرسل إليك الفريق أول محمد فوزي القائد العام، والفريق محمد علي فهمي قائد الدفاع الجوي، كل ما له صلة بالملف».
«هكذا دخلت الوزارة وساهمت من موقعي في معركة نقل الصواريخ من باب الصحافة وبسببها».
قال هيكل فجأة، كأنني لم أكن أمامه أسأل وأحاور: «كنت أشعر عندما أتكلم مع عبدالناصر كأنني أكلم نفسي».

(٣)


غريزة التدوين قادته إلى الولع بالوثائق، وقصته معها طويلة.
راح يتذكر ذلك اليوم من شهر آذار/مارس عام ١٩٤٨ عندما دلف إلى «أخبار اليوم»، وكل من قابله يخبره بأن الأستاذ مصطفى أمين، يسأل من وقت لآخر عما إذا كان وصل الجريدة.
ما إن أطل عليه بادره: «أين أنت... النقراشي باشا يطلب أن يراك الآن».
حامت تصورات وتوقعات وتساؤلات، غير أن ما جرى لم يرد في تصور، أو توقع... فقد كان رئيس الحكومة محمود فهمي النقراشي، مشغولاً بما يجري في فلسطين ونُذر الحرب تقترب، أراد أن يستقصي من الصحافي الشاب العائد تواً من مسارحها الملتهبة خلفيات فيها.
سأل مستفهماً عن المستعمرات اليهودية وما رآه من استعدادات للحرب كان قد وصفها بأنها «نُذر شر».
وسأل متشككاً إذا ما كان صحيحاً أنه شاهد بنفسه في إحدى المستعمرات «أكثر من ستين مدرعة» على ما روى في سلسلة تحقيقاته «النار فوق الأرض المقدسة».
لم يكن رئيس الحكومة مقتنعاً بما قرأ وسمع: «انت يا ابني الكلام ده جبته منين؟»... «أنت تبالغ في ما تقول والأمور ليست بالخطورة التي تتحدث عنها»!
لم تكن مصر قررت دخول الحرب... والرجل الذي أُرسلت قواته إلى فلسطين بعد أسابيع قليلة يتصور أن ما قرأه وسمعه مبالغات صحافي في الرابعة والعشرين من عمره، يصوغ مشاهداته بتوابل إثارة تتطلبها مهنته.
في مواقيت تالية، دعاه رجال دولة وسياسيون تقليديون إلى لقاءات مماثلة للاستماع إلى ما عنده من شهادات إضافية على ما نشره من تغطيات لصراعات وصدامات في المنطقة، كل واحد منهم لديه ما يريد أن يستقصيه، ففلسطين ونارها تضغط على النقراشي باشا، وإيران وبركانها تلح على إسماعيل صدقي باشا... ونجيب الهلالي باشا، وحافظ عفيفي باشا، ومحمد حسين هيكل باشا، لديهم أسئلة أخرى.
تبدت هنا مسألة حاسمة حكمت مسيرته في الصحافة والسياسة، على مدى عقود تناقضت في طبائع رجالها وحقائق زمانها «أن أحداً في السلطة، أو بقربها، لن يسعى إليك ما لم يكن لديك ما تقوله وأن يكون ما تقول عاينته بنفسك في مواقع الأحداث».
في انشغال عبدالناصر بقضية العلاقات الدولية مطلع الخمسينيات وما بعدها أفضت تجربته إلى التفات آخر إلى الوثائق وما تكشف عنه من خفايا الصراع على المنطقة وتوازنات القوى الحرجة على مسارحها الملتهبة.
«تتطلب حواراتك مع الرئيس أن تكون في صورة ما يجري، أن تكون مطلعاً على تقارير الخارجية المصرية وأي تقارير أخرى تدخل في الملف تكتبها جهات سيادية».
في ما بين آب/أغسطس وأيلول/سبتمبر ١٩٧١، جرت واقعة أمدته بغير انتظار بوثائق إضافية من أرشيف رئاسة الجمهورية على عهد عبدالناصر.
في حديقة بيت السادات على نيل الجيزة أخذا يتحاوران في المواقف السياسية المستجدة، لم يكن هناك ما هو عاجل، أو خطير، على الأجندة الرئاسية، والحوار كان تقليدياً ومعتاداً بين صديقين.
على غير توقع، أو موعد مسبق، حضر أشرف مروان، سكرتير الرئيس للمعلومات، ومعه حقيبتان من حجمين مختلفين معبأتان بأوراق ووثائق جلبها من مكتب سامي شرف، وزير شؤون الرئاسة في منشية البكري بعد اعتقاله في أحداث أيار/مايو.
تصور مروان أن وثائق الرئاسة في منشية البكري قد تغري الرئيس الجديد بقراءتها، أو اعتبارها «هدية ثمينة» تستوجب الامتنان والشكر، لكن السادات قال ساخطاً: «لن أقرأ البلاوي دي... اقرأها أنت يا محمد وإن كان فيها حاجة مهمة قل لي».
لم تكن الأوراق كلها جديدة عليه، لكنها احتوت على وثائق مهمة لم يطلع عليها من قبل أضيفت إلى مجموعاته.
طوال السنوات ما بين صعود السادات إلى رئاسة الجمهورية والفراق السياسي بينهما، تدفقت إلى مجموعات وثائقه تسجيلات وتقارير وبرقيات ومراسلات دارت مع هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي طوال عام ١٩٧٣... أكثر من ذلك، أرسلت إلى مكتبه بانتظام طوال تلك الفترة «مُسَيرات الرئاسة»، وهو تعبير مستقى من العهد الملكي ويقصد به كل ما يصل إلى الديوان الرئاسي، أو الملكي، أو ما يصدر عنه... بينما كتب هو التوجيه الاستراتيجي لحرب أكتوبر وخطاب «الدرع والسيف» الذي ألقاه السادات في مجلس الشعب قرب انتهاء معاركها.
بدا أن هناك اختلافاً في طبيعة العلاقة مع رئيسين.
أولهما، عبدالناصر يرسل ما يراه ضرورياً لكي يكون في صورة الدولة ويكون الحوار معه مستنداً إلى حقائق.
«ضرورات الحوار فرضت لغة الوثائق والاستناد إليها».
وثانيهما، السادات، ضرورات أخرى حكمت الحوار، فلم تكن لديه خبرة في الدولة يعتد بها، كأنه يقرأ كتاباً لا يتقن لغته.
«أنا موصول بالجاري في الدولة وهو كان بعيداً ويريد أن يعرف».
وقد ساعدته ظروفه أن يحصل على وثائق فائقة السرية من أرشيف السفارة الأميركية في طهران عند اقتحامها بعد وقت قصير من سقوط الشاه.
«كنت هناك في لحظة التحولات الكبرى، عدت إلى إيران في ظروف جديدة تختلف عن الظروف التي كانت عليها مطلع الخمسينيات، كانت طهران على موعد مع إطاحة الشاه وصعود آية الله الخميني في نهاية السبعينيات».
«اطلعت على جانب من وثائق السفارة الأمريكية لكن الشباب الذين احتلوها هم الذين حددوا الوثائق التي أحصل عليها بينما آية الله الخميني أصدر تعليماته بفتح مكتب الشاه أمامي لأطلع على ما فيه وآخذ ما أريد من وثائق».
«عندما تجد اسمك منصوصاً عليه في وثيقة كتبها دبلوماسي بسفارة غربية بالقاهرة فإنك تجد نفسك في حاجة لمراجعة أوراقك، وأن تبحث في دقة الوثيقة التي تطالعها».
«قرأت تقارير لسفارتي أمريكا وبريطانيا سجلت خلافي مع الرئيس السادات وخروجي من الأهرام، أتأمل ما كتب وأفكر في دلالاته، التي لم تخطر ببالي وقت الحدث».
«كاتب التقرير تتحكم فيه قضيتان... أولاهما، المعلومات التي وصلت إليه ومدى دقته في روايتها والتحقق منها... وثانيتهما، قدرته على قراءة المشهد بتعقيداته ودقة استنتاجاته لكيفية تصرف أطرافه المختلفة».
«عندما تطالع وثيقة أنت طرف فيها، فأنت تقرأها من الداخل ولديك شهادتك، بينما أي مؤرخ أياً كان حجمه فإنه يقرأ الوثيقة ذاتها لكن من خارجها، أدواته الأكاديمية حاضرة وثقافته التاريخية تسعفه لكنه لم يكن في قلب الحدث، أو رآه من داخله».
وقد فوجئ، وهو يقرأ وثيقة أميركية ورد فيها اسمه، بما يشبه صاعقة هبطت عليه، فـ»كاتب التقرير دبلوماسي أمريكي عمل في القاهرة التقيته أكثر من مرة بمكتبي في الأهرام ودعوته للغداء في برقاش أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات دون أن يخطر لي على بال أن الرجل خطير في عوالم المخابرات والاغتيالات السياسية... وضالع في خطة لاغتيال عبدالناصر».
صاعقة الوثيقة التي تكشفت أمامه حقائقها بعد سنوات طويلة أضاءت عنده مساحة غامضة جديدة، وسدت ثغرة ما في روايته للصراع الضاري على المنطقة.