وتحاكي المبادرة التي أعلنها الصدر، في كلمة مسجلة، أكثر من جانب في المستجدات العراقية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فيما تقول في البند العاشر منها: «على الحكومة العراقية المطالبة بخروج جميع القوات المحتلة بل والصديقة ــ إن جاز التعبير ــ من الأراضي العراقية للحفاظ على هيبة الدولة وسيادتها»، من دون توضيح هوية «المحتل والصديق»، وهذا ما يطرح عدداً من نقاط الاستفهام، وبخاصة في ظل ما يجري تداوله في أوساط عراقية عن «تقاطعات صدرية ــ إقليمية في الملف العراقي».
ويشدّد الصدر في مبادرته على رفض «التدخل في شؤون الدول المجاورة من جميع النواحي، كما ان تدخل تلك الدول مرفوض أيضاً»، في إشارةٍ منه إلى بعض فصائل المقاومة العراقية التي تقاتل إلى جانب وحدات الجيش السوري (بعض تلك الفصائل انشقّت عن التيار الصدري)، داعياً كذلك إلى «إنهاء أزمة التدخلات التركية عبر الطرق الدبلوماسية والسياقات الدستورية القانونية للدولة... وإلا سيتحول العمل في هذا الملف إلى سياق آخر».
في أحاديث إلى «الأخبار»، توضح مصادر «التيّار» أن «القوّات الأميركية والتركية هي قوى احتلال، بينما يُعتبر المستشارون الإيرانيون أصدقاء». وتشرح المصادر أنّ المبادرة تقدّم «رؤية أولية للمرحلة المقبلة»، وتستند في شقها المتعلق بالخارج إلى «مبدأ النأي بالنفس عن المحاور المتنازعة في المنطقة»، والابتعاد عن «محور إيران، من دون أن يسقط حقّ شكرها لدورها الايجابي في المرحلة السابقة».
عند هذا الحد تتقاطع معطيات المصادر المتابعة للشأن العراقي، بأن مبادرة الصدر ليست إلا «دمجاً وترتيباً» لأكثر من مشروع ورؤية لأطرافٍ فاعلة ومؤثرة في الملف العراقي، تهدف إلى «إعادة بناء وترتيب البيت العراقي الداخلي، وتقييد الدور الإيراني في العراق، بما يدفع البلاد أكثر باتجاه مسار البناء»، وهو ما تتبناه قيادة التيّار الصدري، وفق مصادره.
ويحاول الصدر تحقيق توازن في تقديم «المسودة»، معتمداً على «سياسية العراق أولاً»، وهو أمرٌ يستغربه عددٌ من أقطاب السياسة العراقية، الذين يرون أن العراق ما بعد الاحتلال الأميركي يدور في فلك محور المقاومة.
وهنا، يتساءل البعض عن صحّة معلومة تسري في الأروقة السياسية الداخلية: «هل أن المسودة هي نتيجة اللقاء الذي عُقد في بيروت، مؤخّراً، بين الصدر والوزير السعودي لشؤون دول الخليج ثامر السبهان، بهدف التوصل إلى رؤية مشتركة للعراق؟»، علماً بأن مصادر «التيّار» تنفي خبر «لقاء السبهان في بيروت» بشكل قاطع.
أين «الحشد»؟
لا ينحصر التصويب «الناعم» للصدر على الوجود الإيراني عند هذا الحد، بل هو يدعو إلى إعادة صياغة الدور المنوط بقوات «الحشد الشعبي» عند الحدود العراقية ــ السورية، وحصر تأمينها بواسطة الجيش و«قوات حرس الحدود». وهو كلام بررت مصادر «الحشد» صدوره عن الصدر بالآتي:
*أولاً، الإعلان المستمر لقيادة «الحشد» (أبو مهدي المهندس) عن إمكانية التوجّه إلى سوريا حمايةً للعراق، خصوصاً أن المهندس وبعض قيادات «الحشد» مقرّبون من الجنرال الإيراني قاسم سليماني، ويعملون وفق أجندة عملياتية مشتركة.
*ثانياً، تمسّك «الحشد»، بدفعٍ إيراني، بتثبيت قاعدة استراتيجية في تلعفر، غربي الموصل، لقطع الطريق على مخطّط أميركي هدفه وصل القواعد الأميركية المنتشرة في الوسط وفي الشمال الغربي للعراق، لتصبح متّصلة بتلك الموجودة في الشمال الشرقي السوري، وهو أمرٌ يعمل محور المقاومة على إفشاله.
نفت مصادر «التيّار» خبر
لقاء مقتدى الصدر بثامر
السبهان في بيروت
*ثالثاً، التعزيز المستقبلي لخطّ الإمداد من إيران إلى سوريا، والذي يمر عبر العراق، بحيث تصبح فصائل «الحشد» مسؤولةً عن تأمينه، وهو أمرٌ يرفضه الصدر، باعتبار أنه سيعيد العراق إلى محور يسعى إلى إخراجه منه.
وتنسحب «مسودة» الصدر على إعادة تشكيل نظرة واقعية لعمل «الحشد» والفصائل «المقاومة»، وذلك عبر «دمج العناصر المنضبطة في الحشد مع القوات الأمنية»، و«جمع السلاح المتناثر في العراق وتسليمه إلى الدولة... وغلق جميع مقرات الفصائل المسلحة أو تحويلها إلى مؤسسات ثقافية أو مدنية أو اجتماعية أو إنسانية».
أفق «المسودة»
وضمن سياق ما يبدو أنه يدفع البلاد باتجاه الخروج من الاصطفافات الإقليمية، فإنّ بنود «المسودة» تدعو إلى «فتح صندوق دولي لدعم حملة الإعمار... وفتح الأبواب أمام الشركات الأجنبية والاستثمارية من أجل إعادة البنى التحتية»، و«تشكيل خلية دولية تعنى بحقوق الإنسان والأقليات لإزالة الانتهاكات والتعديات الطائفية والعرقية»، إضافةً إلى «إشراف أممي على العملية السياسية في المناطق المحرّرة»، و«اقتراح تأسيس مجلس أعلى لشؤون الأقليات في العراق». وهذا ما قد يعزّز بمجمله الوجود الدولي في الساحة العراقية، ويسمح بإمكانية اختراقها، خصوصاً أن العراق، وفق تقديرات معظم القوى، لن يدخل «بعد داعش» في حالة الأمن والاستقرار بشكلٍ مباشر، بل إن مخاضاً عسيراً ومخاطر كبرى ستبقى تحدق به، وصولاً إلى الاستقرار المنشود.
وفي موازاة ذلك، فإن «المسودة» تدعو إلى «فتح حوار جاد وفاعل مع الأطراف في كردستان من أجل الوصول إلى حلول تنفع واقع العراق وشعبه، ولا مانع من أن يكون برعاية أممية»، الأمر الذي يطرح تساؤلاً جدّياً حول الهدف، خاصة إذا ما رُبط مع ما يتردّد من إمكانية تحالف الصدر ومسعود البرزاني في الانتخابات المقبلة.
ضربةٌ... للحكيم
يطرح الصدر «حواراً شاملاً للمصالحة الوطنية» ووفق شروط محدّدة. ولعلّ الترجمة الفعلية لذلك، أنّ زعيم التيار الصدري يضرب مشروع «التسوية التاريخية» الذي يسوّق له رئيس المجلس الإسلامي الأعلى عمّار الحكيم.
ورغم تفسير البعض بأن الصدر قد وجّه ضربةً قاضية للحكيم، فإن مصادر الأخير أعربت لـ«الأخبار» عن ترحيبها «بأي مبادرة تخدم الوضع في العراق»، مشيرةً إلى أن «التسوية هي إطار عام لكل المبادرات، وكل ما يمكن تقديمه سيكون جزءاً منها، أو مطابقاً لها، بوصفها مشروع دولة وليست مشروعاً خاصاً لطائفةٍ أو قومية».
ويشي عدد من بنود «المسودة» بأن الهدف هو استبدال الطبقة السياسية الموجودة، والقضاء على مشروع «الأغلبية السياسية» الذي يسعى إليه نائب رئيس الجمهورية نوري المالكي، والتوجّه مباشرةً إلى القواعد الشعبية، ومنظمات المجتمع المدني، وأصحاب الرأي، «على قاعدة شمولية جميع الأديان والمذاهب والأقليات والتوجهات، وبرعاية علمائية»، وهو أمرٌ استوضحته «الأخبار» من مصادر «التيّار»، فردّت بأنّ المقصود بها «المرجعية الدينية». وهذا ما يفرض سؤالاً: هل هناك تنسيق جدّي مع المرجعيّة الدينية؟، خصوصاً أن الأخيرة تلتزم الصمت وترفض استقبال أيّ من القوى السياسية، علماً بأنّ أجواء المرجعية تقول: إنّ الصمت موقف بحدِّ ذاته.
وإلى أن يُظهر الصدر تمسّكه بـ«المسودة»، فإن متابعين للملف العراقي يترقبون الأيام المقبلة، ويتساءلون: «هل سيُبقي الصدر على سقف مطالبه العالية؟ أم سيعود عنها بطريقةٍ أو بأخرى؟».
العبادي: لن ننخرط في المحاور
أكّد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، أمس، أن «العراق حريص على مصالحه الوطنية ومصالح شعبه، ولا يريد أن ينخرط في سياسة المحاور في المنطقة والعالم»، لافتاً إلى أن «مساحات الاتفاق مع دول الجوار أكبر من مساحات الاختلاف».
وتطرق العبادي، في مؤتمر صحافي عقده في العاصمة بغداد عقب جلسة الحكومة الأسبوعية، إلى عمليات غرب الموصل، مؤكّداً أن «قوات الأمن العراقية أحرزت تقدماً خلال الساعات الأولى من انطلاق العمليات». ونفى وجود «قوّات برية أجنبية تقاتل إلى جانب القوات العراقية (في الموصل)»، موضحاً أن «الموجودين هم مستشارون فقط ومن جنسيات أميركية وفرنسية وبريطانية وغيرها».
في الأثناء، كان رئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، يلتقي في باريس الرئيس فرنسوا هولاند، في رابع لقاء بينهما في غضون ثلاثة أعوام. وللإشارة، فإنّ العلاقة الخاصة بين الرجلين نسجها المفكر الفرنسي الصهيوني برنار هنري ليفي.