تونس | أعلن رئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد، يوم السبت الماضي، إجراء تعديل وزاريّ عيّن بمقتضاه خليل الغرياني وزيراً جديداً للوظيفة العموميّة والحوكمة، بدلاً من عبيد البريكي، المُقال. لم تمرّ سوى أيام معدودات حتى أعلن المنتدب الجديد، يوم الخميس، اعتذاره عن عدم تولي الحقيبة الوزاريّة. وردّاً على امتناع الغريانيّ، ألغى الشاهد الوزارة برمتها، وألحق إداراتها برئاسة الحكومة!
تعديلٌ... بتفاصيل كثيرة

لا يتعلق هذا التعديل بمجرد استبدال وزير بآخر، بل يتعلق بالأحرى بصراع بين توجهين اقتصاديّين، يمثّل أحدهما الشاهد والأحزاب المساندة لحكومته المرتبطة ببرنامج صندوق النقد الدوليّ، فيما يمثّل التوجه الثاني الاتحاد العام التونسيّ للشغل وأحزاب اليسار المعارضة. ويحمل البريكي تاريخاً نقابيّاً ممتداً، إذ هو القياديّ والناطق الرسميّ السابق في اتحاد الشغل (المنظمة النقابية الأوسع تمثيليّة في تونس)، فيما يُعدُّ الغرياني رجل أعمال قادم من قيادة منظمة الصناعة والتجارة، ويحمل في سجله معارك كلاميّة وتفاوضيّة مع المنظمة النقابيّة.
وبناءً على التاريخ الشخصيّ للغرياني، فقد رأى اتحاد الشغل، في بيان صدر عقب اجتماع طارئ لمكتبه التنفيذيّ، يوم 26 شباط الماضي، أنّ "تعيين رجل أعمال على رأس وزارة الوظيفة العموميّة خطوة استفزازيّة للأعوان العموميّين وسعي لضرب مكاسبهم وتنفيذ لرغبة جامحة في التفريط بالمرفق العموميّ، تلبيةً لتوصيات صندوق النقد الدولي"، وطالب بمراجعة التعيين.
لم يراجع رئيس الحكومة تعيينه، وبدا متشبثاً باختياره، بصرف النظر عن رأي الاتحاد، وذلك قبل أن يأتي التراجع من قبل الوزير المعيّن نفسه، مبرراً اعتذاره عن عدم تولي مسؤوليّة الوزارة برغبته في المحافظة على التوازن القائم مع اتحاد الشغل وتفادي أي أزمة ممكنة.

وراء الأكمة ما وراءها؟

جاءت إقالة البريكي، بعد يوم واحد من تصريح له لم يستبعد فيه إمكانيّة استقالته من الحكومة. لم يتأخر الشاهد في التقاط الخيط، فأقال الوزير بنفسه، مبرراً الخطوة بأنّ تصريح الوزير أخلّ بـ"نواميس" العمل الحكومي، ما "اقتضى" رد فعل حازماً.
وبدت الإقالة للبريكي مهينة، إذ لم يُمنح شرف الاستقالة، خاصّة أنّه قاد، برفقة وزير الشؤون الاجتماعيّة، محمد الطرابلسي (الآتي بدوره من قيادة اتحاد الشغل)، المفاوضات مع الاتحاد، وأنهاها بأخف الأضرار. ورأى أنّ دوافع إقالته تتعدى التبرير الرسميّ.
رداً على تلك "الإهانة"، عقد الوزير المقال ندوة صحافيّة، يوم الجمعة، أدلى فيها بمعطيات لم تكشف سابقاً. وقال إنّ رئاسة الجمهوريّة، التي تمتلك سلطات تنفيذيّة محدودة جداً، تقف وراء تعيينات مشبوهة، لا تتم بناءً على مبدأ الكفاءة، لرؤساء مديرين عامين لمؤسسات عموميّة، وتعيينات استثنائية، يمنعها القانون، لفائدة جهات معيّنة. كما اتهم رئاسة الحكومة بسحب صلاحيات منه لفائدتها، وذلك لمدة ثلاثة أسابيع قبل الإقالة، ومنها ملفات إصلاح الوظيفة والمنشآت العموميّة، وهياكل الرقابة، والعمل على صياغة قوانين لمكافحة الفساد. أما في ما يخص المسائل الماليّة، فقال إنّ الدولة لم تعمل على استرجاع ديون، بلغت مئات الملايين من الدولارات، من موردين، إضافة إلى السكوت عن تصدير المرجان المهرب من الجزائر وعن استقبال شخصيّة بارزة مبلغاً يقارب 5 ملايين دولار دون استخدام القانون الجديد الخاص برفع "السر البنكي".

بدت إقالة عبيد
البريكي مهينة إذ لم يُمنح
شرف الاستقالة


إلّا أنّ تصريحات البريكي تجاوزت الكشف عمّا عدّه ملفات فساد، للكشف عن توجه داخل الحكومة للتصادم مع اتحاد الشغل المعارض لجزء واسع من الإجراءات الاقتصاديّة التي تنوي الحكومة اتخاذها. وقال إنّ أحد مستشاري رئيس الحكومة صرح مراراً في اجتماعات وزارية بأنّ معركتهم مع اتحاد الشغل، وحين تدخل هو لثنيه عمّا يقول، أجابه: "لماذا جئنا بكما إذن؟"، في إشارة إليه وإلى الطرابلسي.
تصريحات عبيد البريكي ليست المؤشر الوحيد على صدام مرتقب بين اتحاد الشغل وحكومة يوسف الشاهد. فإضافة إلى رفض الشاهد التخلي عن وزير التربية والتعليم الذي تطالب نقابتا التعليم الثانوي والابتدائيّ بإقالته، يتهم الاتحاد الحكومة برضوخها لإملاءات صندوق النقد الدولي التي تقتضي خصخصة مؤسسات عموميّة وتقليص عدد الموظفين العموميّين بنحو النصف. ويكرر الاتحاد دعواته إلى إقرار نظام ضريبيّ أكثر عدلاً، وتعزيز أدوار الدولة، لا فقط في الخدمات الأساسيّة مثل الصحة والتعليم، بل وكذلك في التشغيل (تبلغ نسبة بطالة الشباب العشرينيّ نحو 30%).
من جهتها، تدافع حكومة الشاهد عن البرنامج الذي أبرمته مع صندوق النقد الدولي، والذي تتلقى بمقتضاه تونس قرضا قيمته 2.8 مليار دولار على أقساط تمتد بين عامي 2016 و2020. لكنها تقول إنّ البرنامج لا يمكن إنجازه إلّا بتوافق مع اتحاد الشغل. وتتمثّل الخطوات الأوليّة، التي كان البريكي نفسه مسؤولاً عنها ومروجاً لها، في تثبيت برنامج تسريح طوعيّ يسمح بمغادرة ما بين 10 آلاف و50 ألف موظف عموميّ في مدار العام الحالي. وكشفت وزيرة المالية في حوار مع وكالة "رويترز" الأسبوع الماضي، أنّ الحكومة متجهة لخصخصة ثلاثة بنوك عموميّة (أو أجزاء منها)، استهلكت من أموال دافعي الضرائب العام الفائت نحو 400 مليون دولار لإعادة هيكلتها، ومؤسسات مصادرة كانت لأشخاص نافذين من دوائر النظام السابق.
لكن يبدو أنّ التزام الشاهد السابق بالتشاور والتنسيق مع المنظمات النقابية والمهنيّة، والذي كرسته وثيقة قرطاج (وهي اتفاق مبادئ بين أحزاب ومنظمات وطنيّة)، آخذ في التبخر بدفع من رعاة برنامجه. حيث لا يمكن فهم الصراع المتصاعد بين الشاهد واتحاد الشغل إلّا في سياق الضغوطات التي يقوم بها صندوق النقد الدولي والتي كان آخرها تجميد قسط من القرض قيمته نحو 350 مليون دينار بحجة تأخر الإصلاحات. وبتواصل تجميد القرض، لن تستطيع الحكومة توفير المصاريف، ما يدفعها إلى الانصياع لشروط الصندوق التي يرفضها الاتحاد.
من الواضح إذن أنّ الشاهد بصدد خيارين لا يمكن المفاضلة بينهما: إما الصدام مع الاتحاد، أو التراجع عن مشروع مع المانح الدولي، فيما تبقى جدارته ومستقبله السياسيّان، وهو الوافد الجديد على السياسة، مرتبطين بشقّ طريق ثالث، يحمل خياراً يرضي الجميع.