كل سقف سياسي تتراجع اليه السلطة الفلسطينية والانظمة العربية، هو منطلق جديد بالنسبة لإسرائيل، للدفع نحو عملية تفاوض على سقف أدنى منه. هذه هي استراتيجية رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لحل القضية الفلسطينية.
بحسب رؤيته، المعادلة التقليدية القائمة على التوصل الى سلام مع الانظمة العربية، بعد حل القضية الفلسطينية، باتت نتيجة «الودّ العربي» معكوسة: السلام والتطبيع مع هذه الانظمة أولاً، وتحديداً الخليجية، يجران ثانياً الى حل وتسوية، على المسار الفلسطيني.
إلا أن «الودّ العربي» الزائد يدفع ويتيح لنتنياهو أن يتطلع الى المزيد، وأن يتريث ويتراجع حتى عن «المبادرة الاقليمية»، بعد أن باتت متاحة، الامر الذي يشير الى رهانه على إمكان التطبيع مع هذه الانظمة، وفي الوقت نفسه إنهاء القضية الفلسطينية، بلا «تنازلات»، حتى وإن كانت شكلية.
أمس، نشرت صحيفة «هآرتس» نص وثيقة عرضها نتنياهو على رئيس المعارضة في الكنيست يتسحاق هرتسوغ، قبل ستة أشهر، تضمنت اقتراح تصريح مشترك لتحريك «مبادرة السلام الاقليمية»، كان يفترض بهما أن يلقياه خلال قمة تجمعهما بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في القاهرة أو في شرم الشيخ، وربماً أيضاً مع الملك الاردني عبدالله الثاني، في مطلع تشرين اول 2016. نص الوثيقة، والمبادرة التي لم ترَ النور نتيجة تراجع نتنياهو عنها، من شأنهما أن يفسّرا مواقف وتصريحات وإجراءات اتخذتها اسرائيل والولايات المتحدة ودول عربية، ومن بينها زيارات لتل أبيب، في حينه.
تضمن نص البيان المشترك لنتنياهو وهرتسوغ شكر الرئيس السيسي على دوره الفاعل في دفع السلام في المنطقة قدماً، وإعادة تحريك العملية السياسية، مع تجديد الالتزام بحل الدولتين وتحريكه من جديد، باتجاه وضع حدّ للصراع وإنهاء المطالب حوله، واعتراف متبادل بين «القوميتين»، مع ترتيبات أمنية وحل إقليمي متفق عليه. ويرد في البيان أيضاً أن إسرائيل تنظر بإيجابية إلى مبادرة السلام العربية عام 2001، وما يرد فيها من إيجابيات، وهي (إسرائيل) ترحّب ببدء مباحثات مع دول عربية حول هذه المبادرة، بهدف ترجمة التغييرات الدراماتيكية التي تشهدها المنطقة في السنوات الاخيرة مع العمل للسلام الواسع في الاقليم.
ويأتي اقتراح نتنياهو على هرتسوغ، والذي تراجع عنه لاحقاً، بعد سبعة أشهر من قمة سرية سبق لـ«هآرتس» أن كشفت عنها، في مدينة العقبة الاردنية، في شباط 2016، وشارك فيها الى جانب نتنياهو الرئيس المصري والملك الاردني ووزير الخارجية الاميركي جون كيري. وهذه القمة، بحسب هآرتس، وما جرى التداول والاتفاق عليه خلالها، كانت الاساس الذي دفع نتنياهو إلى الاتصال بهرتسوغ، للبدء بمبادرة السلام الاقليمية.
في 26 حزيران، التقى نتنياهو بكيري في العاصمة الايطالية روما، تضيف «هآرتس» وتنقل عن مسؤول أميركي سابق. سأل كيري نتنياهو عن خطته تجاه الفلسطينيين، فكرر نتنياهو أمامه موقفه: مبادرة إقليمية مع دول عربية، كما عرضها في قمة العقبة قبل أربعة أشهر. ردّ كيري بأنها غير كافية لدفع دول عربية، كالسعودية والامارات العربية المتحدة، لتنضم الى مبادرة سلام إقليمية، واقترح عليه مبادرة إقليمية مختلفة: «تشمل المركب الاقليمي الذي يرغب فيه نتنياهو، عبر مؤتمر سلام إقليمي بمشاركة إسرائيل والفلسطينيين ودول عربية سنية، بما يشمل السعودية والامارات، وكذلك روسيا والصين ودول بارزة في الاتحاد الاوروبي».

نتنياهو: المتغيرات في العالم العربي تحمل فرصة لدفع عملية السلام في المنطقة

وقال كيري لنتنياهو، ليس من الضروري أن تلتزم إسرائيل والفلسطينيين بتبنّي المبادئ، بل يمكنهم التحفظ عليها في العلن، إلا أن «القمة ستقود الى استئناف المفاوضات، وفتح قناة محادثات مع دول عربية، تشمل نقاشات حول الترتيبات الأمنية التي تطرحها إسرائيل واعتراف دول عربية وغربية بمبادئ نتنياهو، كالاعتراف بالدولة اليهودية».
وفق دبلوماسي أميركي رفيع، لم يُدلِ نتنياهو برأي إيجابي أو سلبي تجاه اقتراحات كيري، لكن مع عودته من روما، اتصل برئيس المعارضة هرتسوغ، وبعضو الكنيست تسيبي ليفني، وأطلعهما على محادثاته مع وزير الخارجية الاميركي والمبادرة التي عرضها عليه، وتناقش معهما في إمكانية ضمّهما الى الحكومة.
في 20 أيلول، وصل نتنياهو الى نيويورك للمشاركة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولمّح خلال كلمته الى «مبادرة السلام الاقليمية»: «أنا لم أتنازل عن السلام، ما زلت ملتزماً بفكرة السلام القائم على دولتين للشعبين. أؤمن بأن التغييرات الجارية في العالم العربي تحمل في طياتها فرصة فريدة من نوعها لدفع السلام. وأنا أثني على الجهود التي يبذلها الرئيس المصري السيسي لدفع السلام في منطقتنا. إسرائيل ترحّب بروح مبادرة السلام العربية، وتتقبّل بترحاب حواراً مع دول عربية لدفع سلام أوسع». وبعد يومين من ذلك، التقى نتنياهو بكيري في نيويورك، وأطلع الأخير نتنياهو على اجتماع الرباعية الدولية الذي انعقد قبل عدة أيام بمشاركة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير. وينقل دبلوماسي أميركي سابق أن كيري أبلغ نتنياهو أن الجبير أوضح أنه إذا وافقت إسرائيل والفلسطينيين على إجراء مفاوضات، وحدث تقدم، فستبدأ السعودية وبقية الدول السنيّة بخطوات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
إلا أن نتنياهو ماطل أمام كيري، يضيف الدبلوماسي الاميركي السابق، وأفهم نتنياهو وزير الخارجية الاميركي أنه معنيّ أولاً باستنفاد خطوته مع مصر وإشراك هرتسوغ في الائتلاف الحكومي، ومن بعدها سيكون من السهل المسير قدماً. و«في هذه المرحلة، وصل كيري الى اليأس، وقال لنتنياهو: أنت بكل بساطة تحاول المماطلة (لكسب) الوقت بانتظار الادارة الاميركية الجديدة»، كما ينقل الدبلوماسي. نتنياهو لم ينكر ذلك، وهو عملياً، وفق المصدر نفسه، أراد «توسيع ائتلافه الحكومي، مع مؤتمر مصغّر بلا تدخل دولي وبلا مبادئ كيري للاتفاق الدائم، بل وقام بكل ما يمكن له لإنهاء الاقتراح بأي طريقة ممكنة».
بعد ذلك، توقفت الاتصالات، وبدأت تصل من جهة نتنياهو «نغمات أخرى». وبات واضحاً لدى هرتسوغ وحاشيته أن نتنياهو تراجع، وأن فرصة المبادرة الاقليمية وتشكيل حكومة وحدة، بدأت بالتبدد.
يشير كشف «هآرتس» إلى أن «المبادرة الاقليمية» كانت في متناول يد نتنياهو. الواقع والمداولات واللقاءات، قبل وخلال وبعد، كانت ملائمة للبدء بتنازل العرب عن فلسطين، مع شكليات إسرائيلية حول تنازلات بلا مضمون. لكن بالنسبة إلى نتنياهو، لم يكن واراداً حتى التنازل الشكلي، وإذا قبِل العرب بالتراجع أولاً وثانياً، فبإمكانهم التراجع ثالثاً وعاشراً. وعلى هذا يراهن، ولا يبدو أن الانظمة العربية ستخذله.