تتميّز زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لموسكو اليوم عن كل ما سبقها من زيارات خلال الأشهر الماضية، بكونها تأتي في سياق ميداني وسياسي سوريين دفع تل أبيب إلى تزخيم خط التواصل الدولي بهدف احتواء والحد من مفاعيله على الأمن القومي الإسرائيلي.
ولم يترك نتنياهو مجالاً للاجتهاد الواسع لاستشراف أهداف زيارته، عندما أوضح خلال جلسة الحكومة أنه «سيعبّر عن معارضة إسرائيل الشديدة لإمكانية أن يتم ضمن إطار التسوية التي تتبلور، أو من دونها، محاولة إيران التموضع بشكل دائم في سوريا، عبر حضور عسكري بري وبحري، ومحاولة متدرجة أيضاً لفتح جبهة أمامنا في مقابل الجولان»، إضافة إلى التوصل إلى تفاهمات محددة من أجل تقليل الاحتكاك المحتمل بين القوات الإسرائيلية والروسية.
بعد الانتصارات التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه، وصولاً إلى استعادة السيطرة على مدينة حلب، تبلور واقع سياسي أمني على الحدود الشمالية للكيان الإسرائيلي، خارج إطار الرهانات التي كانت تأملها وتعمل عليها تل أبيب.

مشكلة إسرائيل أن طموحاتها لا تتلاءم مع معطيات الميدان
وما يفاقم من خطورة هذا الواقع ــ من منظور إسرائيلي ــ تضاؤل إمكانية إعادة قلب مجريات الميدان بشكل جذري، وبالتالي فشل الرهان على الجماعات المسلحة والارهابية. والقدر المتيقّن من نتائج هذا المسار، التي من المؤكد أنها حضرت بقوة على طاولة صناعة القرار السياسي والأمني في تل أبيب، تكريس التهديد الاستراتيجي الذي يمثله محور المقاومة على حدودها وجبهتها الداخلية، وتعزيز «الخاصرة» الشرقية والشمالية لحزب الله في لبنان، وتحصين حلقة الاتصال بين أطراف محور المقاومة، وتقييد خيارات إسرائيل العملانية الاقليمية.
في المقابل، تفرض هذه التطورات على صانع القرار في تل أبيب العمل على اجتراح خيار بديل، على الأقل كمحاولة للحد من مفاعيل انتصار محور المقاومة على الأمن القومي الإسرائيلي واحتوائه.
منذ بداية الأحداث السورية، أدركت تل أبيب خطورة الانزلاق إلى المستنقع السوري... ويمكن القول إنّ سيناريو لبنان كان حاضراً في وعي ووجدان قيادتي المؤسستين السياسية والأمنية اللتين تلمّستا أكثر من أي طرف آخر المعادلات الاقليمية التي تحكم حركة الصراع في الساحة السورية، وبالنتيجة حرصتا على تجنّب الأخطار الناجمة عن أي محاولة حادة لتجاوز خطوط حمراء إقليمية «فاقعة». وهكذا، اتّسم الأداء العملاني الإسرائيلي بقدر من الواقعية، واكتفى بتثمير الفرصة التي أنتجتها الجماعات المسلحة... عبر استهداف ما تقول إنّه أسلحة نوعية في طريقها إلى حزب الله في لبنان.
إدراك صنّاع القرار لحدود قوة إسرائيل، حال دون ارتكاب مغامرات عسكرية واسعة حتى الآن، ودفع تل أبيب إلى الرهان على فعالية عواصم القرار الاقليمي والدولي الأكثر تأثيراً في الساحة السورية. لكن انكفاء الأميركي وتراجع دوره المباشر في سوريا والمنطقة، ودخول روسيا المباشر على خط الصراع، جعل الأخيرة مدخلاً الزامياً لأي مسعى يهدف إلى التأثير في أي ترتيب سياسي للساحة السورية.
في المقابل، يسود العلاقة بين تل أبيب وموسكو قدر من التعقيد. فالعلاقات الثنائية بينهما جيدة، ويطمح كل منهما إلى تعزيزها على أكثر من صعيد. لكن خارطة التحالفات لكل منهما متعارضة مع مصالح الطرف الآخر، بل إن التموضع الروسي في الساحة السورية ساهم في تعزيز الأطراف الأكثر تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي. نتيجة هذا التداخل، يحرص الطرفان على قدر من التنسيق والتواصل كلٌ بحسب أهدافه وأولوياته.
وينبع الرهان الإسرائيلي في هذا المسار من رؤية محدَّدة للعلاقات الإيرانية ــ الروسية، عبَّر عنها رئيس الاستخبارات العسكرية اللواء هرتسي هليفي، أمام لجنة الخارجية والامن، بالقول «إن روسيا لا تعتبر حزب الله وإيران شركاء استراتيجيين بل مجرد أداة لتحقيق أهدافها». تنطوي هذه القراءة على رهان إسرائيلي إزاء إمكانية توسيع هامش التعارض بين الطرفين، بما يساهم – على الأقل من منظور إسرائيلي – في الحد من تفاقم مفاعيل وتداعيات انتصار محور المقاومة على الواقع الإسرائيلي. وهو ما يُفترض أن يترجم عبر عروض وطروحات أعدّتها المؤسسة الأمنية، وسيتم طرحها للنقاش خلال اللقاء مع الرئيس فلاديمير بوتين.
لكن مشكلة الإسرائيلي أن طموحاته وآماله على الساحة السورية، وعبرها، لا تتلاءم مع تطورات الميدان وما يترتب عليه من معادلات سياسية تحدّ من قدرتها على التأثير بشكل مباشر أو غير مباشر. فرغم أهمية العامل الروسي والأساسي في الساحة السورية، إلا أنه ليس مطلق اليد. والسبب أن هناك شركاء أساسيين في الانتصارات التي تحققت ولهم خطوطهم الحمراء.
نتيجة هذه المعادلة التي تحكم الساحة السورية، يمكن التقدير أن هناك هوة تفصل بين الحد الأدنى الذي ترى إسرائيل أنه يلبّي مطالبها، والحد الأقصى الذي يمكن أن يقدمه الروسي، بما لا يربك تحالفاته ومصالحه. مع ذلك، تبقى هناك مساحة رهان قد يوجد من يُنظِّر لها في تل أبيب وخارجها، أن ما قد يكون مرفوضاً ابتداءً من قبل القيادة الإسرائيلية، قد تصبح مضطرة إلى التكيّف معه بفعل محدودية الخيارات المتاحة، وهول مفاعيل الخيارات البديلة... أو الاندفاع نحو خيارات جنونية، قد تؤدي إلى التورط في ما حرصت حتى الآن على تجنّبه.
يبقى أن نسجل حقيقة أن تمسك إسرائيل بخط التواصل مع موسكو، باعتبارها المدخل الإلزامي لأي محاولة تأثير في الساحة السورية، يؤكد أنها لا ترى في الأفق أيّ تغيير جذري في المعادلة السورية، حتى بعد تولّي دونالد ترامب منصب الرئاسة الأميركية.