تونس | منذ استقلال البلدين، تميزت العلاقات بين تونس وليبيا بعدم الاستقرار. بين الهدوء والانسجام أو التنافر والاضطراب اللذين عرفتهما العلاقات، خصوصاً بعد انقلاب القذافي عام 1969، ظل الميزان العام متأرجحاً بين ضفة وأخرى، فيما لا يخفى أنّ بناء علاقة متينة بين "البلدين الشقيقين" بحكم الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والأمن، لا بد أن يمثل عامل استقرار في المنطقة ويساهم حتماً في إعادة الروح إلى "اتحاد المغرب العربي".
"أنا في تونس، أستمد منها الأمل. كنت في ليبيا أحمل السلاح وأداوي الجراح وأقف عند حدود بلادي وأتطلع إلى أن أكون في تونس كما هي الآن. تركت جراحي في ليبيا وجئت هنا لأشحن منكم الأمل وأعود من جديد. أنا هنا مناضلة في المجتمع المدني وأم، أشدد على أنني أم، أنجبت أبناءً لهذه الثورة وما زلت أربّيهم لأجلها دائماً... تونس هي التئام الجرح كلّما أتيت، هذا يومي ما قبل الأخير فيها وأشعر بالامتنان. أعيننا عليكم، نحن معكم في كل خطوة تسيرونها... أريدكم أن تكونوا على يقين أن الأزمة الليبية مهما تفاقمت ومهما كان من أحداث، فإن مشاعري تجاهكم أيها التونسيون جميعاً هي مشاعر كل الليبيين الصادقين". بتلك الكلمات، افتتحت الناشطة الليبية في المجتمع المدني، هندة شريفة، كلمتها الملقاة على هامش مشاركتها في مؤتمر حول الحكم المحلي، نظمه "المعهد العربي للديموقراطية" في العاصمة التونسية يوم الأحد الماضي.
جاءت كلمة الناشطة الليبية في الوقت الذي كانت تتالى فيه أخبار اختطاف تونسيين مقيمين في ليبيا من طرف فصائل محلية، وهي عمليات صارت شبه دورية، في مشهد يبدو أنه يمثّل الفصل الجديد في سيرة العلاقات بين البلدين.

عمليات اختطاف جديدة

يوم الاثنين الماضي، تناقلت وسائل الإعلام خبر اختطاف أكثر من 20 تونسياً في منطقة الخمس الليبية، وهم مختطفون جدد يضافون إلى بقية المختطفين من دبلوماسيين وصحافيين وعمال تونسيين. وقد رجّحت مصادر أن عدد التونسيين المحتجزين في بقية مناطق ليبيا يفوق هذا الرقم بكثير، الأمر الذي تؤكده عائلات المحتجزين الذين نفّذ عدد منهم وقفة احتجاجية، أول من أمس، أمام مقر وزارة الخارجية للمطالبة بتدخل عاجل لإطلاق سراح أبنائهم.
وأكد المحتجّون الذين أتوا إلى العاصمة من مختلف جهات البلاد أن عدد التونسيين المحتجزين في منطقة الخمس بلغ 22 شخصاً، إضافة إلى الموظفين العشرة التابعين للقنصلية التونسية العامة في ليبيا، والذين تعرضوا للاختطاف منذ ما يقارب أسبوع. واستنكر وفد من المحتجين كان قد التقى أحد مسؤولي وزارة الخارجية عدم علم الوزارة بالمختطفين الجدد، فيما عبّر عدد من أهالي المحتجزين التونسيين عن استغرابهم ما وصفوه بـ"صمت وزارة الخارجية التونسية حيال وضعية المحتجزين التونسيين من عمال وغيرهم مقابل التركيز على محتجزي القنصلية التونسية".
ورغم تنامي عمليات الاختطاف، إلا أنّ تعامل وزارة الخارجية التونسية مع تلك العمليات ليس على المستوى المطلوب، وهي لم تصدر بعد أي توضيح بخصوص أخبار الاختطاف الأخيرة، ما عدا نفيها ما تداولته بعض وسائل الإعلام المحلية بشأن إطلاق سراح الدبلوماسيين العشرة وإعلانها أنها تحاول التأكد من صحة خبر آخر يتعلق باختطاف ثمانية تونسيين آخرين قرب طرابلس.
وفي ما يتعلق بموظفي القنصلية التونسية المختطفين، راجت أخبار عن نجاح المفاوضات لإطلاق سراحهم جميعاً، تبعها حديث عن الإفراج عن ثلاثة فقط من بين الدبلوماسيين العشرة، ليتبين لاحقاً أنها أخبار لا صحة لها. وكان نائب وزير الشؤون الخارجية التونسي، التهامي العبدولي، قد صرّح في بداية الأسبوع بأن "المفاوضات مع خاطفي موظفي القنصلية التونسية في طرابلس ناجحة". وأكد العبدولي، وهو المكلف بالشؤون العربية والأفريقية، أنه تابع بنفسه عملية التفاوض مع الجهة الخاطفة التي لم يشأ تحديدها "حفاظاً على حسن سير المفاوضات". وأضاف أنه تم إبلاغ الخاطفين أن "الشرط الأول للحكومة التونسية هو إطلاق سراح المحتجزين، ليجري على إثر ذلك الحديث عن المطالب التي تقدموا بها، والتي من أهمها إطلاق سراح الليبي وليد القليب، القيادي في جماعة فجر ليبيا".
من جهة أخرى، يزداد حتى اليوم الغموض بشأن الأنباء عن مقتل الصحافيين التونسيين المختطفين في ليبيا، سفيان الشورابي ونذير القطاري، وقد عاد الصمت ليطغى على قضيتهما بعدما تعهدت وزارة الخارجية بإجراء التحقيقات اللازمة.
عمليات الاختطاف المتواترة لتونسيين على الأراضي الليبية بدأت تثير ردّ فعل دولي، إذ طالب، مثلاً، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، برناردينو ليون، بإطلاق سراح الدبلوماسيين التونسيين المختطفين في طرابلس، داعياً الأطراف الليبية إلى أن تقوم بأقصى ما في وسعها لضمان إطلاق سراح الموظفين التونسيين ولحماية البعثات الدبلوماسية في ليبيا.
الثابت في كل هذا أن تونس لا تعلم اليوم عدد أفراد جاليتها المختطفين أو المهددين في الأراضي الليبية. والثابت أكثر أن الوضع في الجانب الليبي صار ذا تأثير مباشر على الأمن التونسي، في الوقت الذي يتواصل فيه التعامل الرسمي المتذبذب مع هذا الملف.

العلاقات الشعبية إلى أين؟

بدأ الشارع التونسي مؤخراً إبداء مواقف قد تكون عدائية في بعض وجوهها إزاء ليبيا. وصار من المألوف سماع آراء قد تصل إلى حد الدعوة إلى طرد الليبيين المقيمين في تونس منذ اندلاع الأحداث في بلادهم. وجدير بالذكر أنّ آخر إحصائية لعدد الليبيين المقيمين في تونس تفيد بأن الرقم قد تجاوز بكثير مليون شخص، فيما تجاوز عدد التونسيين العاملين في ليبيا (في المنطقة الغربية خصوصاً) مئة ألف عامل.
الآراء "العدائية" لبعض التونسيين مردّها إلى رؤيتهم ما يحصل لهم ولأبنائهم على الأراضي الليبية، وهي وقائع كثيراً ما تؤثر في تشكيل الرأي العام، رغم أنّ ليبيا، مثلاً، تمتص نزيف البطالة التي تعانيها تونس والتي بلغت حسب آخر الاحصائيات 600 ألف عاطل من العمل. وهنا عقدة من شأنها شرح مسببات تطور ملفات الاختطاف.
لطالما أفسد القذافي بسلوكه السياسي الأهوج والمتقلّب المزاج طبيعة العلاقات الليبية ــ التونسية، وشوّه تطورها الطبيعي من دون اعتبار منه للمرتكزات المتينة والعميقة التي تستند إليها العلاقة بين الشعبين. فهل ستنجح "خفافيش الظلام" اليوم، وفي ظل المعطيات الجديدة، في تفتيت هذه العلاقة وتشويهها أكثر؟ وأين أصحاب القرار من كل هذا؟