«بشار الأسد ودائرته المقربة يوشكون على ترك السلطة والرحيل... ويجرى الاستعداد لعهد جديد هناك». هذا التصريح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تموز من عام 2012 يوضح أهداف بلاده الحقيقية لـ«سوريا الجديدة».منذ اليوم الأول للأزمة السورية، شكّلت أنقرة الحصان الأسود للهجوم السياسي ثم التحضير العسكري لإتمام انقلاب المشهد.
بالتزامن مع هذا التصريح، قارب «أصدقاء السلطان» من الإمساك بمدينة حلب، لينتهي المطاف بتقاسمها مع الجيش.

أرياف الشمال تهاوت، ومن هناك إلى إدلب فريف اللاذقية الشمالي، كانت أنقرة عبر «مُنتجاتها» وحلفائها ترمي بثقلها في الميدان.
ومن الضروري التذكير الدائم بالتسجيلات الصوتية التي سُرّبت لمسؤولين أتراك كبار في آذار عام 2014 (مدير المخابرات حقان فيدان ووزير الخارجية (حينها) أحمد داوود أوغلو ونائب رئيس الأركان وغيرهم) عن سيناريو لتنفيذ عملية سرية لتبرير تدخّل عسكري في سوريا. في التسجيل قال فيدان: «لسنا في حاجة إلى أي حجج أو مبرّرات للتدخل العسكري... نستطيع أن نرسل أربعة أشخاص يطلقون ثمانية صواريخ نحو الأراضي التركية، أو عناصر من الاستخبارات للقيام بعمل استفزازي ضد ضريح سليمان شاه (...)، ثم نقول إنّ داعش هي التي قامت بذلك، وبعدها يتدخل الجيش التركي».

لا زال رجب طيب أردوغان
يتمنّى أن يطأ أرض دمشق «فاتحاً» منتصراً


أنقرة الباحثة دائماً عن دور أكبر، تحيّنت كل الفرص لتعزيز حضورها في سوريا. لم يكبح هذا الدور المتعاظم سوى التدخّل الروسي المباشر في 30 أيلول 2015. جردة سريعة لأولى الطلعات الجوية تحيلنا على استهداف «أصدقاء أنقرة» من التشكيلات العسكرية. من ريف اللاذقية قرب الحدود وصولاً إلى حلب وريفها، كان ضغط «السوخوي» يشتدّ ويبدأ بقلب الموازين.
وبعد إسقاط أنقرة الطائرة الروسية في تشرين الثاني من عام 2015، كانت موسكو تزيد من حضورها عبر سلسلة قرارات عسكرية متدحرجة لإعادة ترتيب ساحة الاشتباك فوق الأراضي السورية. بدأ عملياً تحجيم الدور التركي وتدجينه.
في خلال تحرير مدينة حلب في كانون الأول الماضي، جاء الإجهاز على مزيد من الرهانات التركية. توالى إسقاط خطوط أنقرة الحمر لتنكفئ بعيداً عن حسابات «عاصمة الشمال».

شريك ناقص

من خصم لدود لروسيا إلى شريك مدجّن. هكذا جاءت مخرجات معركة حلب في ظلّ انكفاء أميركا المشغولة حينها بتسلّم دونالد ترامب رئاستها.
وضع الدبلوماسيون الروس نُظراءهم الأتراك إلى جانبهم على طاولة واحدة، لكن لم تكن علاقة نديّة، بل أقرب إلى شريك ناقص.
بالتزامن مع معركة الباب حاول حاكم قصر «شنقايا» القفز شرقاً نحو نهر الفرات. أكّد لموسكو أنّه لن يستهدف الجيش السوري بل يريد استكمال حربه ضد «داعش» وصولاً إلى الرقة، وإبعاد «الخطر الكردي».
نقلت موسكو، حسب معلومات «الأخبار» الرسالة إلى الجانبين السوري والإيراني. سريعاً جاء التحرك المضاد: أقفل الجيش السوري طريق «درع الفرات» عبر اتصال قواته جغرافياً بمناطق «قوات سوريا الديموقراطية» في ريف منبج الغربي. جُنّ جنون «السلطان»، وانعكست تصريحات عالية النبرة ضد طهران وسياساتها في المنطقة.
كانت المسألة مجرّد تعبير فجّ جراء انزعاج وخنق. يومها رُسّمت حدود أنقرة ضمن مثلّث جرابلس ـ الباب ــ أعزاز في ريف حلب الشمالي. العجز التركي استحال قوة روسية إضافية وتعزيزاً لمكانتها.
ست سنوات والشغل الشاغل لأنقرة وحكامها، هو الحرب السورية ومآلاتها. كُرسّت سياسات ومشاريع على أساس نتيجة الصراع السوري. غرق الداخل التركي في التفاصيل اليومية السورية. من مسألة اللاجئين إلى الحدود المشتعلة وخلفها مشروع دويلة كردية مروراً بالناشطين والمسلحين الذين وجدوا في تركيا مأوىً ومنصة.
لم تعدّل أنقرة استراتيجياتها، ما قبل الحضور الروسي المباشر، إلا في سبيل فعالية أكبر وتدّخل أعمق في بلاد الشام.
مؤخراً، حان موعد الواقعية. لم تحرق أنقرة كل أوراقها، لكن «الضابطة» الروسية حاضرة للتأديب والتأنيب. في النتيجة أمّنت تركيا حضوراً أساسياً في «مستقبل سوريا». فهي عبر قواتها الغازية ثبّتت وجودها في الجغرافية والعسكر، ليضاف ذلك إلى الدور السياسي والحضور التاريخي الذي يتيحه موقعها لتكون جزءاً مهماً من المشهد العام.
رجب طيب أردوغان لم يندم أو يقم بمراجعة فكرية وسياسية لأهداف حكمه في سوريا. لا زال يتمنّى أن يطأ أرض دمشق «فاتحاً» منتصراً، هو الأمر الواقع الذي فُرض عليه. بالحساب العام خسر العديد من النقاط... لكنّه لم يرفع الراية البيضاء.