حلب | «حلب إلنا، بس بيتنا أجار»، يقول محمود، ثمّ يطلق ضحكة تختصر الكثير من المرارة والسخرية. حالةُ الرّجل الأربعيني الذي فقد اثنين من أولاده في حادثتين تفصل بينهما أشهرٌ أربعة تبدو صالحةً كنموذجٍ لحال معظم سكّان المدينة. فالنكبة التي توشك أن تطوي عامها الثالث في حلب لم توفّر أحداً من أبنائها، سيّما الذين لم يغادروها حتى الآن، (وسواء كان ذلك قراراً بالتشبّث بها، أو عجزاً عن إيجاد حلول لحياة كريمة خارجَها).
تبدو التحوّلات التي حاقت بحلب (منذ آب 2012 حتى اليوم) أكبرَ بكثيرٍ من طاقة أبنائها على الاستيعاب. تحوّلات لم تقتصر على حال الناس، وطبائعهم، وطرائق عيشهم بل تجاوزتها إلى شكل المدينة وطرقاتها، وتقسيم الأحياء طبقيّاً. الحرب كادت أن تلغي الفوارق تماماً بين الأحياء، وبين السكّان. وفي واقع الأمر، فإنّ النسبة الأكبر من السكّان باتت تسكن بيوتاً بديلةً من بيوتها السابقة. فمعظم الميسورين من أبناء الأحياء الفارهة غادروا المدينة، ليترك البعض بيوتهم لأقارب نزحوا من مناطق ساخنة، ويقوم البعض الآخر (وهم الأكثر) بتأجير بيوتهم للهاربين من جحيم الأحياء الشرقيّة. كل شيء هنا بات مختلفاً، سوى إصرار أبناء المدينة على إيجاد حلول تضمن مواصلة الحياة. وسيكون طبيعيّاً أن تشتري شراشف وبياضات من كشك صغير يديره صاحب معمل أقمشة سابق أو أن تُصادف شريكاً في ملكيّة مطعمك المُفضل سابقاً وقد افتتحَ «بسطةً» لبيع اللحوم المشوية على أحد أرصفة المدينة.

هل يدخلون؟

في الأحياء الغربيّة من المدينة (خاضعة لسيطرة الدولة السورية) ثمّة سؤال مشترك بين معظم الناس: «رح يدخلوا؟»، في إشارة إلى المجموعات المسلّحة. ويبدو أن الحرب النفسيّة التي كُثّفت في الأسابيع الأخيرة حول الحشود وأعداد المسلّحين، و«استعداد النظام لإخلاء المدينة» قد تركت أثراً لدى كثير من الناس، وخاصة في ضوء ما آلت إليه الأمور في محافظة إدلب المجاورة. ورغم أن الانعكاسات لم ترقَ إلى درجة التسليم بأنّ حلب ستسقط في يد المسلّحين، لكنّ التخوّف من تحوّل المدينة إلى ساحة لمرحلة جديدة من الحرب يبدو كبيراً. كذلك؛ كان لتحركات تنظيم «داعش» الأخير في ريف حلب الشمالي منعكسات أدّت إلى اختلاط الأسئلة بين «رح يدخلوا؟»، و«مين اللي رح يدخل؟».
بطبيعة الحال تختلف تقديرات الناس هُنا لنتيجة أي معركة، فبينما لا يستبعد البعض تكرار سيناريو إدلب، يتشبّث الكثيرون بأنّ «النظام لن يتخلّى عن حلب بسهولة»، ويضيف البعض: «ولا بصعوبة». بين هذا وذاك، يبدو خوف النسوة على وجه الخصوص أكبر من أن تنفع معه محاولات التهدئة. أم فراس تؤكد لـ«الأخبار» أنّها تُفكر جديّاً في ضرورة «تجهيز ملابس شرعيّة لأبنائها (الأطفال واليافعين): ملاءات وأغطية رأس سوداء للفتيات، وجلابيّات للذكور (أردية بيضاء)». تستنكر السيدة ردّ فعلنا: «عمتضحكو؟ هدول ما بيخافو الله، وبيدبحو عأهون سبب. مشان بنطلون الجينز بيدبحو».

أم فراس تُفكر جديّاً في ضرورة «تجهيز ملابس شرعيّة لأبنائها»
المفارقة أن هذه الأفكار ليست حالات فرديّة، فأم أحمد قامت بإجراءات مماثلة بالفعل، كذلك شقيقتها وابنة أخيها، بينما تعكف أم النور على خياطة ملابس «شرعيّة» لأبنائها الثلاثة بيدها.. وهكذا.

«الحالة تعبانة يا شهبا»

أبرز التغيرات التي اتضحت معالمها في الشهرين الأخيرين ترتبط بالوضع الاقتصادي. جولة قصيرة في الأسواق ستكون كفيلة بملاحظة انخفاض أسعار معظم السلع قياساً بمحافظتي دمشق واللاذقية مثلاً. وخلافاً لما يكون عليه الحال في أيام السلم، فإن انخفاض الأسعار هذه الأيام ليس مؤشراً على أن الأمور بخير. «الجمل بليرة، وما في ليرة» يصرخ سائق سيارة الأجرة، ويضع حدّاً لأسئلتنا المتتالية باللجوء إلى دندنة أغنية معروفة، بعد التلاعب بكلماتها: «الحالة تعبانة يا شهبا، عملة ما فيش». النقاشات مع عدد من الباعة، وتجار «نصف الجملة» ستنتهي بنا إلى النتيجة ذاتها: «انخفضت القوّة الشرائيّة لدى سكّان المدينة إلى درجات مخيفة». وبسبب ما عُرف عن شطارة التاجر الحلبي، وفهمه للسوق ومتطلبات كل مرحلة يبدو أنّ معظم التجار قد خلصوا إلى ضرورة الاقتناع بهوامش ربح ضئيلة، حفاظاً على استمرار أكبر قدر من عمليات البيع والشراء. «إي نعم، حلب صارت فقيرة، مين بيصدق يا عالم!»، يقول أحد تجار المواد الغذائيّة. يتدخل في الحديث قريبٌ له يعمل محاسباً، ويُدلي بكلامٍ طويل مفادُه أن «أحد أهداف الحرب على حلب إفقارُها»، وأن هذه النتيجة «مرضية للجميع. حتى الدولة (السورية). فقد تبدّل الميزان الاقتصادي ورجحت الكفّة لمصلحة مدن الساحل». هي نظرية المؤامرة التي يبدو أنها تلقى رواجاً دائماً في العقل الجمعي السوري.

... والحيويّة مستمرّة

برغم كل ما تقدّم، ما زالت الحيوية تفرض إيقاعها على الأسواق الحلبيّة التي باتت منتشرةً في كل الأحياء والمناطق. يختلف الأمر بين سوق وآخر، فسوق الفرقان هو الأنشط، تليه أسواق الأعظميّة والجميلية والفيض. اللّافت أن أسعار العقارات لم تتأثّر لا بسوء الوضع الأمني، ولا بتردي الحالة الاقتصادية للسواد الأعظم من الناس. فعلى سبيل المثال بلغ بدل الإيجار الشهري لبعض الأكشاك في الفرقان 50 ألف ليرة (حوالى 175 دولارا)، مقابل 30 ألفا (حوالى 100 دولار) للمحل الصغير في الأعظمية. وسجّلت بعض المحاضر العقارية الكبيرة أسعاراً فلكيّة وصلت إلى 200 مليون ليرة في حي الفرقان، وهي محاضر يجري تقسيمها إلى محال تجارية بأحجام صغيرة ومتوسطة قبل بيعها أو عرضها للاستثمار. كذلك، يبدولافتاً أنّ عمليات افتتاح المطاعم والمقاهي لم تتأثّر. وعلى سبيل المثال فقد أحصينا تسعة مطاعم ومقاهٍ جديدة افتُتحت خلال الشهرين الأخيرين في حي الموكامبو وحدَه. وبينما عزف معظم أبناء المدينة عن متابعة أخبار الحرب، سوى ما يرتبط منها ارتباطاً مباشراً بمدينتهم، فقد استمرّ هؤلاء في مواكبة الأحداث الرياضيّة البارزة. ووجب على الراغبين في متابعة مباراة القمّة الكرويّة الأوروبيّة بين ناديي برشلونة ويوفنتوس في المقاهي أن يحجزوا أماكنهم قبل ثلاث ساعات على الأقل. الأجواء داخل المقهى كانت حماسيةً إلى درجة تجعلك تنسى على امتداد الساعتين أنّك في «أخطر مدينة في العالم». وتنخرط في المتابعة والترقّب، والتصفيق، والصراخ أحياناً.

على أبواب رمضان

في الأيام الخوالي، كان دنو شهر الصيام حدثاً احتفاليّاً في الشهباء. يتسابق أبناء الأحياء في تزيينها، وينشغل أرباب الأُسر في شراء وتخزين كميات كبيرة من السلع الغذائية، بينما تنهمك كثير من ربّات البيوت في إعداد صنوف من الأطعمة (الكبب والمحاشي على وجه الخصوص) قبل أسبوع من رؤية الهلال. وكانت بعض الأحاديث لازمةً واجبة في مثل هذه الأيّام، وعلى رأسها: «وين بدّك تصلّي التراويح؟». لتتحول الإجابات إلى مناسبة للمفاضلة بين «جامع كذا وجامع كذا»، وبين «الشيخ فُلان، والشيخ علتان». ويسارع البعض إلى التذكير بأن «أفضلكم صلاة أبعدكم إليها ممشى». اليوم، تبدّل كل شيء، فلا تخزين للسلع ولا إعداد لموائد إفطار عامرة. معظم الناس باتوا يعيشون حياتهم على مبدأ «يوم بيوم». وصلاة التراويح صارت منزليّة لدى معظم من ينوي تأديتها، وفي جامع الحارة لدى البعض. وفيما كان الأطفال ينتظرون رمضان بغية عد الأيام تنازلياً وصولاً إلى العيد، صارت أمنياتهم اليوم من قبيل «يختفوا المسلحين، وارجع ألعب بحارتنا تحت القلعة (تسمية شعبية للحي المجاور للقلعة)» كما يقول سمير (8 سنوات)... أو «يموتو كل الطيارات، ونرجع عضيعتنا»، كم تقول طفلة في عامها السادس. ضاقت أحلام الناس، وكادت تقتصر على «العيش الآمن». وبصوت أقرب إلى الحشرجة تقول كفاء: «هاد رابع رمضان... إيمت بدنا ننعتق من النار؟ ما حدا بيعرف». قبل أن تشيح المرأة بنظرها إلى البعيد، من دون أن تحاول مداراة دموعها.




تغييرات وهواجس أمنية

ثمّة اختلافات ملحوظة في طريقة عمل معظم الحواجز المنتشرة في الأحياء الغربيّة. وهي اختلافات جاءت بعد التغييرات الأمنية التي حملت رئيساً جديداً إلى فرع أمن الدولة. لتغدو الإجراءات المُتّبعة على معظم الحواجز أقل تعقيداً، وأكثر سلاسة، سواءٌ لجهة عمليات تفتيش السيارات، أو التدقيق في هويّة العابرين. ومثل أي إجراء جديد، خلّفت هذه الإجراءات ردود فعل متباينة في الشارع الحلبي. ما بين مُرحّب بها ومعتبرٍ أنّها «تُخفف عن المواطن ضغوطاً لا حاجة إليها طالما أنّ مداخل مناطق سيطرة الدولة مضبوطة». وما بين متوجّس ومُشكّك، إلى درجة التذكير بالاختراق الأمني الخطير الذي تُوّج بظهور مسلّحي الريف فجأةً داخل عدد من الأحياء الشرقيّة قبل ثلاثة أعوام.